فصل: الحكم الإجماليّ، ومواطن البحث

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


إحياء الموات

التعريف

1 - الإحياء في اللّغة جعل الشّيء حيّاً، والموات‏:‏ الأرض الّتي خلت من العمارة والسّكّان‏.‏ وهي تسمية بالمصدر‏.‏ وقيل‏:‏ الموات الأرض الّتي لا مالك لها، ولا ينتفع بها أحد‏.‏ وإحياء الموات في الاصطلاح هو كما قال الأتقانيّ شارح الهداية‏:‏ التّسبّب للحياة النّامية ببناء أو غرس أو كرب ‏(‏حراثة‏)‏ أو سقي‏.‏ وعرّفه ابن عرفة بأنّه لقب لتعمير داثر الأرض بما يقتضي عدم انصراف المعمر عن انتفاعه بها‏.‏ وعرّفه الشّافعيّة بأنّه عمارة الأرض الخربة الّتي لا مالك لها، ولا ينتفع بها أحد‏.‏ وعرّفه الحنابلة بأنّه عمارة ما لم يجر عليه ملك لأحد، ولم يوجد فيه أثر عمارة‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

2 - من الألفاظ ذات الصّلة التّحجير أو الاحتجار، والحوز، والارتفاق، والاختصاص، والإقطاع، والحمى‏.‏

أ - التّحجير‏:‏

3 - التّحجير أو الاحتجار لغةً واصطلاحاً‏:‏ منع الغير من الإحياء بوضع علامة، كحجر أو غيره، على الجوانب الأربعة وهو يفيد الاختصاص لا التّمليك‏.‏

ب - الحوز والحيازة‏:‏

4 - الحوز والحيازة لغةً الضّمّ والجمع‏.‏ وكلّ من ضمّ إلى نفسه شيئاً فقد حازه‏.‏ والمراد من الحيازة اصطلاحاً وضع اليد على الشّيء المحوز‏.‏ وهي لا تفيد الملك عند الجمهور خلافاً لبعض المالكيّة‏.‏ وتفصيله في مصطلح‏:‏ «حيازة»‏.‏

ج - الارتفاق‏:‏

5 - الارتفاق بالشّيء لغةً الانتفاع به‏.‏ وهو في الاصطلاح لا يخرج - في الجملة - عن المعنى اللّغويّ، على خلاف فيما يرتفق به‏.‏ وموضعه مصطلح‏:‏ ‏(‏ارتفاق‏)‏‏.‏

د - الاختصاص‏:‏

6 - الاختصاص بالشّيء في اللّغة‏:‏ كونه لشخص دون غيره‏.‏ وهو في الاصطلاح لا يخرج عن ذلك‏.‏ والاختصاص أحد الطّرق المؤدّية إلى إحياء الموات‏.‏

هـ - الإقطاع‏:‏

7 - الإقطاع في اللّغة والاصطلاح‏:‏ جعل الإمام غلّة أرض رزقاً للجند أو غيرهم‏.‏ ونصّ الحنابلة وغيرهم على أنّ للإمام إقطاع الموات لمن يحييه، فيكون أحقّ به كالمتحجّر الشّارع في الإحياء‏.‏ وهو نوع من أنواع الاختصاص‏.‏ وتفصيله في مصطلح ‏(‏إقطاع‏)‏‏.‏

صفة الإحياء حكمه التّكليفيّ

8 - حكمه الجواز، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من أحيا أرضاً ميّتةً فهي له»‏.‏ على أنّ الشّافعيّة ذهبوا إلى أنّه مستحبّ، للحديث الّذي رواه النّسائيّ‏:‏ «من أحيا أرضاً ميّتةً فله فيها أجر»‏.‏ وحكمة مشروعيّته أنّه سبب لزيادة الأقوات والخصب للأحياء‏.‏

أثر الإحياء حكمه الوضعيّ

9 - ذهب الجمهور إلى أنّ المحيي يملك ما أحياه إذا توافرت الشّروط، وذلك للحديث السّابق، خلافاً لبعض الحنفيّة، كالفقيه أبي القاسم أحمد البلخيّ، إذ قالوا‏:‏ إنّه يثبت ملك الاستغلال لا ملك الرّقبة، قياساً على السّبق للانتفاع بالمرافق العامّة، كالمجالس، وخلافاً لبعض الحنابلة الّذين ذهبوا إلى أنّ الذّمّيّ لا يملك الإحياء في دار الإسلام، إنّما يملك الانتفاع‏.‏

أقسام الموات

10 - الموات قسمان‏:‏ أصليّ وهو ما لم يعمر قطّ، وطارئ‏:‏ وهو ما خرب بعد عمارته‏.‏ الأراضي الّتي كانت جزائر وأنهاراً‏:‏

11 - اتّفق الفقهاء على أنّ الأنهار والجزائر ونحوهما إذا انحسر عنها الماء فصارت أرضاً يابسةً ترجع إلى ما كانت عليه‏.‏ فإن كانت مملوكةً لأحد أو وقفاً أو مسجداً عادت إلى المالك أو الوقف أو المسجد، ولا يجوز إحياؤها، لكن قيّد المالكيّة ذلك بما إذا كان المالك ملك الأرض بالشّراء، فإن كان ملكها بالإحياء جاز للغير إحياؤها‏.‏ واختلفوا فيما إذا لم تكن مملوكةً لأحد أو لم يعرف للأرض مالك‏:‏ فذهب الحنفيّة إلى أنّ النّهر إذا كان بعيداً، بحيث لا يعود إليه الماء، تكون أرضه مواتاً يجوز إحياؤها‏.‏ وكذلك الحكم إذا كان النّهر قريباً في ظاهر الرّواية، وهو الصّحيح؛ لأنّ الموات اسم لما لا ينتفع به، فإذا لم يكن ملكاً لأحد، ولا حقّاً خاصّاً له، لم يكن منتفعاً به، فكان مواتاً، بعيداً عن البلد، أو قريباً منها‏.‏ وعلى رواية أبي يوسف رحمه الله تعالى - وهو قول الطّحاويّ الّذي اعتمده شمس الأئمّة - لا يكون مواتاً إذا كان قريباً، وذلك لأنّ ما يكون قريباً من القرية لا ينقطع ارتفاق أهلها عنه، فيدار الحكم عليه‏.‏ وعند محمّد يعتبر حقيقة الانتفاع، حتّى لا يجوز إحياء ما ينتفع به أهل القرية وإن كان بعيداً، ويجوز إحياء ما لا ينتفعون به وإن كان قريباً من العامر‏.‏

12 - واختلفوا في حدّ القرب والبعد‏.‏ وأصحّ ما قيل فيه أن يقوم الرّجل على طرف عمران القرية، فينادي بأعلى صوته، فأيّ موضع ينتهي إليه صوته يكون من فناء العمران؛ لأنّ أهل القرية يحتاجون إلى ذلك الموضع لرعي المواشي أو غيره، وما وراء ذلك يكون من الموات‏.‏ ورأى سحنون من المالكيّة ومن وافقه كمطرّف وأصبغ مثل ظاهر الرّواية في مذهب الحنفيّة، غير أنّه لم يقيّد بجواز عود المياه، لأنّ الأنهار الّتي لم ينشئها النّاس ليست ملكاً لأحد، وإنّما هي طريق للمسلمين لا يستحقّها من كان يلي النّهر من جهتيه‏.‏ وعند غيرهم أنّ باطن النّهر إذا يبس يكون ملكاً لصاحبي الأرض الّتي بجنب النّهر، لكلّ واحد منهما ما يجاور أرضه مناصفةً‏.‏ والحكم كذلك إذا مال النّهر عن مجراه إلى الأرض المجاورة له‏.‏ ويستخلص من نصوص المالكيّة أنّهم لا يفرّقون في الحكم بين النّهر القريب والبعيد‏.‏ وعند الشّافعيّة والحنابلة أنّ ما نضب عنه الماء من الأنهار والجزائر لا يجوز إحياؤه برغم أنّه لم يكن مملوكاً من قبل‏.‏ وصرّح الشّافعيّة بأنّه ليس للسّلطان إعطاؤه لأحد‏.‏ قالوا‏:‏ «ولو ركب الأرض ماء أو رمل أو طين فهي على ما كانت عليه من ملك أو وقف‏.‏ فإن لم يعرف مالك للأرض وانحسر ماء النّهر عن جانب منه لم يخرج عن كونه من حقوق المسلمين العامّة، وليس للسّلطان إقطاعه - أي إعطاؤه - لأحد، كالنّهر وحريمه‏.‏ ولو زرعه أحد لزمه أجرته لصالح المسلمين، ويسقط عنه قدر حصّته إن كانت له في مصالح المسلمين‏.‏ نعم للإمام دفعه لمن يرتفق به بما لا يضرّ المسلمين‏.‏ ومثله ما ينحسر عنه الماء من الجزائر في البحر‏.‏ ويجوز زرعه ونحوه لمن لم يقصد إحياءه‏.‏ ولا يجوز فيه البناء ولا الغراس ولا ما يضرّ المسلمين‏.‏ وكلّ هذا إذا رجي عود مالك الأرض، فإن لم يرج عوده كانت لبيت المال فللإمام إقطاعها رقبةً أو منفعةً إن لم يكن في تصرّفه جور، لكن المقطع يستحقّ الانتفاع بها مدّة الإقطاع خاصّةً»‏.‏

13 - وفي المغني‏:‏ وما نضب عنه الماء من الجزائر لم يملك بالإحياء‏.‏ قال أحمد في رواية العبّاس بن موسى‏:‏ إذا نضب الماء عن جزيرة إلى فناء رجل لم يبن فيها، لأنّ فيه ضرراً، وهو أنّ الماء يرجع‏.‏ يعني أنّه يرجع إلى ذلك المكان‏.‏ فإذا وجده مبنيّاً رجع إلى الجانب الآخر فأضرّ بأهله؛ ولأنّ الجزائر منبت الكلأ والحطب فجرت مجرى المعادن الظّاهرة‏.‏ وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا حمى في الأراك»‏.‏ وقال أحمد في رواية حرب‏:‏ يروى عن عمر أنّه أباح الجزائر‏.‏ يعني أباح ما ينبت في الجزائر من النّبات‏.‏ وقال‏:‏ «إذا نضب الفرات عن شيء، ثمّ نبت عن نبات، فجاء رجل يمنع النّاس منه فليس له ذلك، فأمّا إن غلب الماء على ملك إنسان ثمّ عاد فنضب عنه فله أخذه، فلا يزول ملكه بغلبة الماء عليه‏.‏ وإن كان ما نضب عنه الماء لا ينتفع به أحد فعمره رجل عمارةً لا تردّ الماء، مثل أن يجعله مزرعةً، فهو أحقّ به من غيره؛ لأنّه متحجّر لما ليس لمسلم فيه حقّ، فأشبه التّحجّر في الموات»‏.‏

إذن الإمام في الإحياء

14 - فقهاء المذاهب مختلفون في أرض الموات هل هي مباحة فيملك كلّ من يحقّ له الإحياء أن يحييها بلا إذن من الإمام، أم هي ملك للمسلمين فيحتاج إحياؤها إلى إذن‏؟‏ ذهب الشّافعيّة والحنابلة وأبو يوسف ومحمّد إلى أنّ الإحياء لا يشترط فيه إذن الإمام، فمن أحيا أرضاً مواتاً بلا إذن من الإمام ملكها‏.‏ وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنّه يشترط إذن الإمام، سواء أكانت الأرض الموات قريبةً من العمران أم بعيدةً‏.‏ واشترط المالكيّة إذن الإمام في القريب قولاً واحداً‏.‏ ولهم في البعيد طريقان‏:‏ طريق اللّخميّ وابن رشد أنّه لا يفتقر لإذن الإمام، والطّريق الآخر أنّه يحتاج للإذن‏.‏ والمفهوم من نصوص المالكيّة أنّ العبرة بما يحتاجه النّاس وما لا يحتاجونه، فما احتاجوه فلا بدّ فيه من الإذن، وما لا فلا‏.‏ احتجّ الجمهور بعموم قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من أحيا أرضاً فهي له»؛ ولأنّ هذه عين مباحة فلا يفتقر ملكها إلى إذن الإمام كأخذ الحشيش، والحطب‏.‏ واحتجّ أبو حنيفة بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ليس للمرء إلاّ ما طابت به نفس إمامه»، وبأنّ هذه الأراضي كانت في أيدي الكفرة ثمّ صارت في أيدي المسلمين، فصارت فيئاً، ولا يختصّ بالفيء أحد دون رأي الإمام، كالغنائم؛ ولأنّ إذن الإمام يقطع المشاحّة‏.‏ والخلاف بين الإمام وصاحبيه في حكم استئذان الإمام في تركه من المحيي المسلم جهلاً‏.‏ أمّا إن تركه متعمّداً تهاوناً بالإمام، كان له أن يستردّ الأرض منه زجراً له‏.‏ وكلّ هذا في المحيي المسلم في بلاد الإسلام‏.‏

15 - أمّا بالنّسبة لإحياء الذّمّيّ في بلاد الإسلام فقال الحنابلة‏:‏ الذّمّيّ كالمسلم في الإحياء بالنّسبة لإذن الإمام‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ الذّمّيّ كالمسلم فيه إلاّ في الإحياء في جزيرة العرب فلا بدّ فيه من الإذن‏.‏ واشترط الحنفيّة في إحياء الذّمّيّ إذن الإمام اتّفاقاً بين أبي حنيفة وصاحبيه حسبما ورد في شرح الدّرّ‏.‏ ومنعوا الإحياء للمستأمن في جميع الأحوال‏.‏ ولم يجوّز الشّافعيّة إحياء الذّمّيّ في بلاد الإسلام مطلقاً‏.‏

ما يجوز إحياؤه وما لا يجوز

16 - أجمع فقهاء المذاهب على أنّ ما كان مملوكاً لأحد أو حقّاً خاصّاً له أو ما كان داخل البلد لا يكون مواتاً أصلاً فلا يجوز إحياؤه‏.‏ ومثله ما كان خارج البلد من مرافقها محتطباً لأهلها أو مرعًى لمواشيهم، حتّى لا يملك الإمام إقطاعها‏.‏ وكذلك أرض الملح والقار ونحوهما، ممّا لا يستغني المسلمون عنه، ولا يجوز إحياء ما يضيق على وارد أو يضرّ بماء بئر‏.‏ ونصّ الشّافعيّة في الأصحّ عندهم، والحنابلة، على أنّه لا يجوز إحياء في عرفة ولا المزدلفة ولا منًى، لتعلّق حقّ الوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة ومنًى بالمسلمين، ولما فيه من التّضييق في أداء المناسك، واستواء النّاس في الانتفاع بهذه المحالّ‏.‏ وقال الزّركشيّ من الشّافعيّة‏:‏ وينبغي إلحاق المحصّب بذلك لأنّه يسنّ للحجيج المبيت به‏.‏ وقال الوليّ العراقيّ‏:‏ ليس المحصّب من مناسك الحجّ‏.‏ فمن أحيا شيئاً منه ملكه‏.‏

17 - وأجمع الفقهاء أيضاً على أنّ الأرض المحجّرة لا يجوز إحياؤها؛ لأنّ من حجّرها أولى بالانتفاع بها من غيره‏.‏ فإن أهملها فلفقهاء المذاهب تفصيلات‏:‏ فالحنفيّة وضعوا مدّةً قصوى للاختصاص الحاصل بالتّحجير هي ثلاث سنوات، فإن لم يقم بإحيائها أخذها الإمام ودفعها إلى غيره‏.‏ والتّقدير بذلك مرويّ عن عمر، فإنّه قال‏:‏ ليس لمتحجّر بعد ثلاث سنين حقّ‏.‏ وذهب المالكيّة إلى أنّ من أهمل الأرض الّتي حجّرها بأن لم يعمل فيها، مع قوّته على العمل من ذلك الحين إلى ثلاث سنوات، فإنّها تؤخذ منه، عملاً بالأثر السّابق، ولم يعتبروا التّحجّر إحياءً إلاّ إذا جرى العرف باعتباره كذلك‏.‏ وذهب الحنابلة في أحد وجهين عندهم إلى أنّ التّحجير بلا عمل لا يفيد، وأنّ الحقّ لمن أحيا تلك الأرض؛ لأنّ الإحياء أقوى من التّحجير‏.‏ وذهب الشّافعيّة، وهو الوجه الثّاني عند الحنابلة إلى أنّه إذا أهمل المتحجّر إحياء الأرض مدّةً غير طويلة عرفاً، وجاء من يحييها، فإنّ الحقّ للمتحجّر؛ لأنّ مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «من أحيا أرضاً ميّتةً ليست لأحد» - وقوله‏:‏ «في غير حقّ مسلم فهي له» أنّها لا تكون له إذا كان فيها حقّ‏.‏ وكذلك قوله‏:‏ «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحقّ به»‏.‏ وروى سعيد بن منصور في سننه أنّ عمر رضي الله عنه قال‏:‏ من كانت له أرض - يعني من تحجّر أرضاً - فعطّلها ثلاث سنين، فجاء قوم فعمروها، فهم أحقّ بها وهذا يدلّ على أنّ من عمّرها قبل ثلاث سنين لا يملكها؛ لأنّ الثّاني أحيا في حقّ غيره، فلم يملكه، كما لو أحيا ما يتعلّق به مصالح ملك غيره؛ ولأنّ حقّ المتحجّر أسبق، فكان أولى، كحقّ الشّفيع، يقدّم على شراء المشتري‏.‏ فإن مضت مدّة طويلة على الإهمال بحسب العرف بلا عذر أنذره الإمام؛ لأنّه ضيّق على النّاس في حقّ مشترك بينهم، فلم يمكّن من ذلك، كما لو وقف في طريق ضيّق أو شرعة ماء أو معدن، لا ينتفع، ولا يدع غيره ينتفع‏.‏ فإن استمهل بعذر أمهله الإمام والإمهال لعذر يكون الشّهر والشّهرين ونحو ذلك‏.‏ فإن أحيا غيره في مدّة المهلة فللحنابلة فيه الوجهان السّابقان‏.‏ وإن انقضت المدّة ولم يعمر فلغيره أن يعمره ويملكه؛ لأنّ المدّة ضربت له لينقطع حقّه بمضيّها‏.‏

حريم العامر والآبار والأنهار وغيرها

18 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا يجوز إحياء حريم المعمور، وأنّه لا يملك بالإحياء‏.‏ وكذلك حريم البئر المحفورة في الموات وحريم النّهر‏.‏ والمراد بحريم المعمور ما تمسّ الحاجة إليه لتمام الانتفاع به، وهو ملك لمالك المعمور، بمعنى أنّ له أن يمنع غيره من إحيائه بجعله داراً مثلاً، وليس له منع المرور فيه، ولا المنع من رعي كلأ فيه، والاستقاء من ماء فيه، ونحو ذلك‏.‏ والدّار المحفوفة بدور لا حريم لها‏.‏ وحريم البئر ما لو حفر فيه نقص ماؤها، أو خيف انهيارها‏.‏ ويختلف ذلك بصلابة الأرض ورخاوتها‏.‏

19 - واختلف الفقهاء في مقدار حريم البئر والعين والنّهر والشّجر‏.‏ فقال الحنفيّة‏:‏ إنّ حريم بئر العطن ‏(‏وهي الّتي يستقى منها للمواشي‏)‏ أربعون ذراعاً‏.‏ قيل‏:‏ الأربعون من الجوانب الأربع من كلّ جانب عشرة‏.‏ والصّحيح أنّ المراد أربعون ذراعاً من كلّ جانب‏.‏ وأمّا حريم البئر النّاضح ‏(‏وهي أن يحمل البعير الماء من نهر أو بئر لسقي الزّرع‏)‏ فهو ستّون ذراعاً في قول أبي يوسف ومحمّد‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ لا أعرف إلاّ أنّه أربعون ذراعاً‏.‏ وبه يفتى‏.‏ ومن أحيا نهراً في أرض موات فقال بعضهم‏:‏ إنّ عند أبي حنيفة لا يستحقّ له حريماً، وعندهما يستحقّ‏.‏ والصّحيح أنّه يستحقّ له حريماً بالإجماع‏.‏ وذكر في النّوازل‏:‏ وحريم النّهر من كلّ جانب نصفه عند أبي يوسف‏.‏ وقال محمّد من كلّ جانب بمقدار عرض النّهر‏.‏ والفتوى على قول أبي يوسف‏.‏ ومن أخرج قناةً في أرض موات استحقّ الحريم بالإجماع‏.‏ وحريمها عند محمّد حريم البئر‏.‏ إلاّ أنّ المشايخ زادوا على هذا فقالوا‏:‏ القناة في الموضع الّذي يظهر فيه الماء على وجه الأرض منزلة العين الفوّارة، حريمها خمسمائة ذراع بالإجماع‏.‏ أمّا في الموضع الّذي لا يقع الماء على الأرض فحريمها مثل النّهر‏.‏ وقالوا‏:‏ إنّ حريم الشّجرة خمسة أذرع‏.‏ المالكيّة والشّافعيّة متّفقون على أنّ البئر ليس لها حريم مقدّر، فقد قال المالكيّة‏:‏ «أمّا البئر فليس لها حريم محدود لاختلاف الأرض بالرّخاوة والصّلابة، ولكن حريمها ما لا ضرر معه عليها‏.‏ وهو مقدار ما لا يضرّ بمائها، ولا يضيّق مناخ إبلها ولا مرابض مواشيها عند الورود‏.‏ ولأهل البئر منع من أراد أن يحفر بئراً في ذلك الحريم‏.‏ وقالوا‏:‏ إنّ للنّخلة حريماً، وهو قدر ما يرى أنّ فيه مصلحتها، ويترك ما أضرّ بها، ويسأل عن ذلك أهل العلم‏.‏ وقد قالوا‏:‏ من اثني عشر ذراعاً من نواحيها كلّها إلى عشرة أذرع، وذلك حسن‏.‏ ويسأل عن الكرم أيضاً وعن كلّ شجرة أهل العلم به، فيكون لكلّ شجرة بقدر مصلحتها»‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ إنّ حريم البئر المحفورة في الموات ‏(‏هي ما كانت مطويّةً، وينبع الماء منها‏)‏‏:‏ موقف النّازح منها، والحوض الّذي يصبّ فيه النّازح الماء، وموضع الدّولاب ‏(‏وهو ما يستقي به النّازح، وما يستقي به بالدّابّة‏)‏ والموضع الّذي يجتمع فيه لسقي الماشية والزّرع من حوض ونحوه، ومتردّد الدّابّة، والموضع الّذي يطرح فيه ما يخرج من الحوض ونحوه، كلّ ذلك غير محدّد، وإنّما هو بحسب الحاجة‏.‏ وحريم آبار القناة ‏(‏وهي المحفورة من غير طيّ ليجتمع الماء فيها ويؤخذ لنحو المزارع‏)‏‏:‏ ما لو حفر فيه نقص ماؤها، أو خيف سقوطها‏.‏ ويختلف ذلك بصلابة الأرض ورخاوتها‏.‏ ومذهب الحنابلة كمذهب الجمهور في أنّه لا يجوز إحياء حريم البئر والنّهر والعين، غير أنّهم انفردوا بأنّه بحفر بئر يملك حريمها‏.‏ أمّا تقدير الحنابلة للحريم من كلّ جانب في بئر قديمة فهو خمسون ذراعاً وفي غيرها خمس وعشرون‏.‏ وحريم عين وقناة خمسمائة ذراع، ونهر من جانبيه‏:‏ ما يحتاج إليه لطرح كرايته ‏(‏أي ما يلقى من النّهر طلباً لسرعة جريه‏)‏، وحريم شجرة‏:‏ قدر مدّ أغصانها، وحريم أرض تزرع‏:‏ ما يحتاج إليه لسقيها وربط دوابّها وطرح سبخها ونحوه‏.‏

إحياء الموات المقطّع

20 - يقال في اللّغة‏:‏ أقطع الإمام الجند البلد إقطاعاً أي جعل لهم غلّتها رزقاً، واصطلاحاً إعطاء موات الأرض لمن يحييها، وذلك جائز لما روى وائل بن حجر «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أقطعه أرضاً، فأرسل معه معاوية‏:‏ أن أعطها إيّاه، أو أعلمها إيّاه»‏.‏ ولا بدّ قبل بيان حكم هذا الإحياء من بيان حكم الإقطاع؛ لأنّه إمّا أن يكون بصيغته إقطاع تمليك، أو إقطاع إرفاق ‏(‏انتفاع‏)‏‏.‏ فإن كان إقطاع إرفاق فالكلّ مجمع على أنّه لا يفيد بذاته تمليكاً للرّقبة، إن كان إقطاع تمليك فإنّه يمتنع به إقدام غير المقطع على إحيائه؛ لأنّه ملك رقبته بالإقطاع نفسه، خلافاً للحنابلة، فإنّهم ذهبوا إلى أنّ إقطاع الموات مطلقاً لا يفيد تملّكاً، لكنّه يصير أحقّ به من غيره‏.‏ أمّا إذا كان الإقطاع مطلقاً، أو مشكوكاً فيه، فإنّه يحمل على إقطاع الإرفاق؛ لأنّه المحقّق‏.‏

الحمى

21 - الحمى لغةً‏:‏ ما منع النّاس عنه، واصطلاحاً‏:‏ أن يمنع الإمام موضعاً لا يقع فيه التّضييق على النّاس للحاجة العامّة لذلك، لماشية الصّدقة، والخيل الّتي يحمل عليها‏.‏ وقد كان للرّسول صلى الله عليه وسلم أن يحمي لنفسه وللمسلمين، لقوله في الخبر‏:‏ ‏{‏لا حمى إلاّ للّه ولرسوله‏}‏، لكنّه لم يحم لنفسه شيئاً، وإنّما حمى للمسلمين، فقد روى ابن عمر، قال‏:‏ «حمى النّبيّ صلى الله عليه وسلم النّقيع لخيل المسلمين»‏.‏ وأمّا سائر أئمّة المسلمين فليس لهم أن يحموا لأنفسهم شيئاً، ولكن لهم أن يحموا مواضع لترعى فيها خيل المجاهدين، ونعم الجزية، وإبل الصّدقة، وضوالّ النّاس، على وجه لا يتضرّر به من سواه من النّاس‏.‏ وهذا مذهب الأئمّة أبي حنيفة ومالك وأحمد والشّافعيّ في صحيح قوليه‏.‏ وقال في الآخر‏:‏ ليس لغير النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يحمي، لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لا حمى إلاّ للّه ورسوله»‏.‏ واستدلّ الجمهور بأنّ عمر وعثمان حميا، واشتهر ذلك في الصّحابة، فلم ينكر عليهما، فكان إجماعاً‏.‏ وما حماه النّبيّ صلى الله عليه وسلم فليس لأحد نقضه ولا تغييره مع بقاء الحاجة إليه، ومن أحيا منه شيئاً لم يملكه‏.‏ وإن زالت الحاجة إليه، ودعت حاجة لنقضه، فالأظهر عند الشّافعيّة جواز نقضه‏.‏ وعند الحنابلة وجهان‏.‏ واستظهر الحطّاب من المالكيّة جواز نقضه إن لم يقم الدّليل على إرادة الاستمرار‏.‏ وما حماه غيره من الأئمّة فغيره هو أو غيره من الأئمّة جاز، وإن أحياه إنسان ملكه في أحد الوجهين للحنابلة؛ لأنّ حمى الأئمّة اجتهاد، وملك الأرض بالإحياء نصّ، والنّصّ يقدّم على الاجتهاد‏.‏ والوجه الآخر للحنابلة‏:‏ لا يملكه؛ لأنّ اجتهاد الإمام لا يجوز نقضه، كما لا يجوز نقض حكمه‏.‏ ومذهب الشّافعيّ، كذلك‏.‏

من يحقّ له الإحياء

أ - في بلاد الإسلام‏:‏

22 - والمراد بها كما بيّن القليوبيّ‏:‏ ما بناه المسلمون، كبغداد والبصرة، أو أسلم أهله عليه، كالمدينة واليمن، أو فتح عنوةً، كخيبر ومصر وسواد العراق، أو صلحاً والأرض لنا وهم يدفعون الجزية‏.‏ والحكم في هذه البلاد أنّ عمارتها فيء، ومواتها متحجّر لأهل الفيء‏.‏ وقد اتّفق الفقهاء على أنّ المسلم البالغ العاقل الحرّ له الحقّ في أن يحيي الأرض الموات الّتي في بلاد الإسلام على نحو ما سبق‏.‏ واختلفوا فيما وراء ذلك، فذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الذّمّيّ كالمسلم في حقّ الإحياء في بلاد الإسلام، لكنّ مطرّفاً وابن الماجشون من المالكيّة منعا من إحيائه في جزيرة العرب ‏(‏مكّة والمدينة والحجاز كلّه والنّجود واليمن‏)‏‏.‏ وقال غيرهما‏:‏ لو قيل إنّ حكم الذّمّيّين في ذلك حكم المسلمين لم يبعد، كما كان لهم ذلك فيما بعد من العمران‏.‏ وجاء في شرح الهداية‏:‏ «أنّ الذّمّيّ يملك بالإحياء كما يملكه المسلم ‏"‏ من غير تقييد بإذن الإمام في ذلك عند الصّاحبين اللّذين لا يشترطان إذن الإمام للمسلم‏.‏ وعلّل الشّارح ذلك بأنّ الإحياء سبب الملك، فيستوي في ذلك المسلم والذّمّيّ كما في سائر أسباب الملك‏.‏ والاستواء في السّبب يوجب الاستواء في الحكم، لكن الّذي في شرح الدّرّ كما سبق أنّ الخلاف بين الإمام وصاحبيه في اشتراط إذن الإمام في الإحياء إنّما هو بالنّسبة للمسلم، أمّا بالنّسبة للذّمّيّ فيشترط الإذن اتّفاقاً عند الحنفيّة‏.‏ وذهب الشّافعيّة إلى عدم جواز إحياء الذّمّيّ في بلاد الإسلام، فقد نصّوا على أنّ الأرض الّتي لم تعمّر قطّ إن كانت ببلاد الإسلام فللمسلم تملّكها بالإحياء، أذن فيه الإمام أم لا، وليس ذلك لذمّيّ وإن أذن الإمام، فغير الذّمّيّ من الكفّار أولى بالمنع، فلا عبرة بإحيائه، وللمسلم أن يأخذه منه ويملكه، فإن كان له عين فيه كزرع ردّه المسلم إليه، فإن أعرض عنه فهو لبيت المال، وليس لأحد التّصرّف فيه، ولا أجرة عليه مدّة إحيائه لأنّه ليس ملكاً لأحد‏.‏ وقد نصّ الشّافعيّة على أنّ الصّبيّ المسلم، ولو غير مميّز يملك ما أحياه، وأنّه يجوز للعبد أن يحيي، لكن ما يحييه يملكه سيّده‏.‏ ولم يذكروا شيئاً عن إحياء المجنون‏.‏ وباقي المذاهب لم يستدلّ على أحكام إحياء المذكورين عندهم، ولكن الحديث‏:‏ «من أحيا أرضاً ميّتةً فهي له» يدلّ بعمومه على أنّ الصّغير والمجنون يملكان ما يحييانه‏.‏

ب - في بلاد الكفّار‏:‏

23 - مذهب الحنفيّة والحنابلة والباجيّ من المالكيّة أنّ موات أهل الحرب يملكه المسلمون بالإحياء، سواء أفتحت بلادهم فيما بعد عنوةً ‏(‏وهي الّتي غلب عليها قهراً‏)‏ أم صلحاً‏.‏ وقال سحنون‏:‏ ما كان من أرض العنوة من موات لم يعمل فيها ولا جرى فيها ملك لأحد فهي لمن أحياها‏.‏ ومذهب الشّافعيّة أنّه يجوز للمسلم وللذّمّيّ إحياء موات بلاد الكفر، لكنّهم قيّدوا جواز إحياء المسلم بعدم منعه من ذلك، فإن منعه الكفّار فليس له الإحياء‏.‏ وقد صرّح ابن قدامة من الحنابلة أنّ المسلم إذا أحيا مواتاً في دار الحرب قبل فتحها عنوةً تبقى على ملكه؛ لأنّ دار الحرب على أصل الإباحة‏.‏ وكذلك إن كان الإحياء قبل فتحها صلحاً على أن تبقى الأرض لهم، وللمسلمين الخراج، ففي هذه الصّورة يحتمل عدم إفادة الإحياء الملك؛ لأنّها بهذا الصّلح حرّمت على المسلمين، ويحتمل أن يملكها من أحياها؛ لعموم الخبر؛ ولأنّها من مباحات دارهم، فجاز أن يملكها من وجد منه سبب تملّكها‏.‏

ما يكون به الإحياء

24 - يكاد يتّفق الحنفيّة والمالكيّة فيما يكون به الإحياء، فقد نصّ الحنفيّة على أنّ الإحياء يكون بالبناء على الأرض الموات، أو الغرس فيها، أو كريها ‏(‏حرثها‏)‏، أو سقيها‏.‏ ونصّ مالك على أنّ إحياء الأرض أن يحفر فيها بئراً أو يجري عيناً أو يغرس شجراً أو يبني أو يحرث، ما فعل من ذلك فهو إحياء‏.‏ وقاله ابن القاسم وأشهب‏.‏ وقال عياض‏:‏ اتّفق على أحد سبعة أمور‏:‏ تفجير الماء، وإخراجه عن غامرها به، والبناء والغرس والحرث، ومثله تحريك الأرض بالحفر، وقطع شجرها، وسابعها كسر حجرها وتسوية حفرها وتعديل أرضها‏.‏ أمّا الشّافعيّة فقد نصّوا على أنّ ما يكون به الإحياء يختلف بحسب المقصود منه، فإن أراد مسكناً اشترط لحصوله تحويط البقعة بآجر أو لبن أو محض الطّين أو ألواح الخشب والقصب بحسب العادة، وسقف بعضها لتتهيّأ للسّكنى، ونصب باب لأنّه المعتاد في ذلك‏.‏ وقيل لا يشترط؛ لأنّ السّكنى تتحقّق بدونه‏.‏ وإن كان المقصود زريبةً للدّوابّ فيشترط التّحويط، ولا يكفي نصب سعف أو أحجار من غير بناء، ولا يشترط السّقف؛ لأنّ العادة في الزّريبة عدمه، والخلاف في الباب كالخلاف فيه بالنّسبة للمسكن‏.‏ والإحياء في المزرعة يكون بجمع التّراب حولها، لينفصل المحيا عن غيره‏.‏ وفي معنى التّراب قصب وحجر وشوك، ولا حاجة إلى تحويط وتسوية الأرض بطمّ المنخفض وكسح المستعلي‏.‏ فإن لم يتيسّر ذلك إلاّ بما يساق إليها فلا بدّ منه لتتهيّأ للزّراعة‏.‏ ولا تشترط الزّراعة بالفعل على أحد قولين؛ لأنّها استيفاء منفعة، وهو خارج عن الإحياء‏.‏ والقول الثّاني‏:‏ لا بدّ منها؛ لأنّ الدّار لا تصير محياةً إلاّ إذا حصل فيها عين مال المحيي، فكذا الأرض‏.‏ وللحنابلة فيما يكون به الإحياء روايتان، إحداهما، وهي ظاهر كلام الخرقيّ ورواية عن القاضي‏:‏ أنّ تحويط الأرض إحياء لها سواء أرادها للبناء أو الزّرع أو حظيرةً للغنم أو الخشب أو غير ذلك ونصّ عليه أحمد في رواية عليّ بن سعيد، فقال‏:‏ الإحياء أن يحوّط عليها حائطاً، أو يحفر فيها بئراً أو نهراً‏.‏ ولا يعتبر في ذلك تسقيف، وذلك لما روى الحسن عن سمرة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ قال «من أحاط حائطاً على أرض فهي له»‏.‏ رواه أبو داود والإمام أحمد في مسنده، ويروى عن جابر عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم مثله؛ ولأنّ الحائط حاجز منيع، فكان إحياءً، أشبه ما لو جعلها حظيرةً للغنم‏.‏ ويبيّن من هذا أنّ القصد لا اعتبار له‏.‏ ولا بدّ أن يكون الحائط منيعاً يمنع ما وراءه، ويكون ممّا جرت به العادة بمثله‏.‏ ويختلف باختلاف البلدان‏.‏ ورواية القاضي الثّانية‏:‏ «أنّ الإحياء ما تعارفه النّاس إحياءً، لأنّ الشّرع ورد بتعليق الملك على الإحياء، ولم يبيّنه ولا ذكر كيفيّته، فيجب الرّجوع فيه إلى ما كان إحياءً في العرف، ولا يعتبر في إحياء الأرض حرثها ولا زرعها؛ لأنّ ذلك ممّا يتكرّر كلّما أراد الانتفاع بها فلم يعتبر في الإحياء كسقيها»‏.‏

إهمال المحيا

25 - من أحيا أرضاً ميّتةً، ثمّ تركها، وزرعها غيره، فهل يملكها الثّاني، أو تبقى على ملك الأوّل‏؟‏ مذهب الشّافعيّة والحنابلة وأصحّ القولين عند الحنفيّة وأحد أقوال ثلاثة عند المالكيّة‏:‏ أنّها تبقى على ملك الأوّل، ولا يملكها الثّاني بالإحياء، مستدلّين بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من أحيا أرضاً ميّتةً ليست لأحد فهي له»، وقوله‏:‏ «في غير حقّ مسلم»؛ ولأنّ هذه أرض يعرف مالكها، فلم تملك بالإحياء، كالّتي ملكت بشراء أو عطيّة‏.‏ وفي قول للمالكيّة، وهو قول عند الحنفيّة‏:‏ أنّ الثّاني يملكها، قياساً على الصّيد إذا أفلت ولحق بالوحش وطال زمانه، فهو للثّاني‏.‏ والقول الثّالث عند المالكيّة‏:‏ الفرق بين أن يكون الأوّل أحياه، أو اختطّه أو اشتراه، فإن كان الأوّل أحياه كان الثّاني أحقّ به‏.‏ وإن كان الأوّل اختطّه أو اشتراه كان أحقّ به‏.‏

التّوكيل في الإحياء

26 - اتّفق الفقهاء على أنّه يجوز للشّخص أن يوكّل غيره في إحياء الأرض الموات، ويقع الملك للموكّل؛ لأنّ ذلك ممّا يقبل التّوكيل فيه‏.‏

توفّر القصد في الإحياء

27 - لا بدّ من القصد العامّ للإحياء اتّفاقاً‏.‏ واختلفوا هل يشترط في الإحياء أن يقصد المحيي منفعةً خاصّةً في المحيا، أو يكفي أن يهيّئ الأرض تهيئةً عامّةً بحيث تصير صالحةً لأيّ انتفاع من زراعة أو بناء أو حظيرة للغنم ونحو ذلك‏.‏ فذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى أنّه لا يشترط في الإحياء توفّر القصد الخاصّ، بل يكفي القصد العامّ، وهو الانتفاع على أيّ وجه‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ إنّ الإحياء يختلف باختلاف المقصود منه، ممّا يدلّ على أنّهم يعتبرون القصد الخاصّ، في الإحياء، لكنّهم قالوا‏:‏ لو شرع في الإحياء لنوع، فأحياه لنوع آخر، كأن قصد إحياءه للزّراعة بعد أن قصده للسّكنى، ملكه اعتباراً بالقصد الطّارئ، بخلاف ما إذا قصد نوعاً، وأحياه بما لا يقصد به نوع آخر، كأن حوّط البقعة بحيث تصلح زريبةً، بقصد السّكنى لم يملكها، خلافاً للإمام‏.‏

الوظيفة على الأرض المحياة

28 - المراد بالوظيفة‏:‏ ما يجب في الأرض المحياة للدّومة من عشر أو خراج‏.‏ ذهب الحنفيّة إلى أنّ الأرض المحياة إن كانت في أرض العشر أدّى عنها العشر، وإن كانت في أرض الخراج أدّى عنها الخراج، وإن احتفر فيها بئراً، أو استنبط لها قناةً، كانت أرض عشر، وإن أحياها ذمّيّ فهي خراجيّة كيفما كانت‏.‏ وذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الأرض المحياة فيها الخراج مطلقاً فتحت عنوةً أو صولح أهلها‏.‏

المعادن في أرض الموات

29 - المعادن الّتي توجد في الأرض المحياة قسمان‏:‏ ظاهرة وباطنة‏.‏ فالظّاهرة هي الّتي يتوصّل إليها بعمل يسير، كحفر مقدار أصبع لأنبوب، ونحو ذلك كالنّفط والكبريت والقار والكحل والياقوت وأشباه ذلك‏.‏ والحكم فيها عند الحنفيّة والحنابلة أنّها لا تملك بالإحياء، ولا يجوز إقطاعها لأحد من النّاس، ولا احتجارها دون المسلمين؛ لأنّ في ذلك ضرراً بهم وتضييقاً عليهم، ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أقطع أبيض بن حمّال معدن الملح، فلمّا قيل له إنّه بمنزلة الماء العدّ ردّه‏.‏ وعند الشّافعيّة يملكها المحيي بشرط عدم علمه بوجودها قبل الإحياء، فأمّا إن علمها فلا يملكها، وعلّلوا ملكها أنّها من أجزاء الأرض، وقد ملكها بالإحياء، فيملك المعادن تبعاً‏.‏ وعند المالكيّة أنّها إلى الإمام، يعطيها لمن شاء من المسلمين، سواء أكانت بأرض غير مملوكة، كالفيافي أو ما جلا عنها أهلها ولو مسلمين، أم مملوكةً لغير معيّن، أم لمعيّن‏.‏ أمّا المعادن الباطنة، وهي الّتي لا تخرج إلاّ بعمل ومئونة، كالذّهب والفضّة والحديد والنّحاس والرّصاص، فهي ملك لمن استخرجها عند الحنفيّة والشّافعيّة، وهو احتمال عند الحنابلة؛ لأنّها مستخرجة من موات لا ينتفع به إلاّ بالعمل والمئونة، فيملك بالإحياء، كالأرض؛ ولأنّه بإظهار المعادن أمكن الانتفاع بالموات من غير حاجة إلى تكرار ذلك العمل، فأشبه الأرض إذا جاءها بماء أو حائط‏.‏ ووجه عدم الملك عند الحنابلة أنّ الإحياء الّذي يملك به هو العمارة الّتي تهيّأ بها المحيا للانتفاع من غير تكرار عمل، وإخراج المعادن حفر وتخريب يحتاج إلى تكرار عند كلّ انتفاع‏.‏ وعند المالكيّة أنّ المعادن الباطنة كالظّاهرة أمرها إلى الإمام‏.‏ ومواطن التّفصيل في المصطلحات الخاصّة‏.‏

أخ

التّعريف

1 - الأخ لغةً من ولده أبوك وأمّك، أو أحدهما‏.‏ فإن كانت الولادة لأبوين فهو الشّقيق، ويقال للأشقّاء الإخوة الأعيان‏.‏ وإن كانت الولادة من الأب فهو الأخ لأب، ويقال للإخوة والأخوات لأب أولاد علاّت‏.‏ وإن كانت الولادة من الأمّ فهو الأخ لأمّ، ويقال للإخوة والأخوات لأمّ‏:‏ الأخياف‏.‏ والأخ من الرّضاع هو من أرضعتك أمّه، أو أرضعته أمّك، أو أرضعتك وإيّاه امرأة واحدة، أو أرضعت أنت وهو من لبن رجل واحد، كرجل له امرأتان لهما منه لبن، أرضعتك إحداهما وأرضعته الأخرى‏.‏

الحكم الإجماليّ

2 - المذاهب الأربعة على أنّه يجوز دفع الزّكاة إلى الأخ بأنواعه، غير أنّ الحنابلة جعلوا ذلك في حالة عدم إرثه‏.‏ فإن كان وارثاً فلا يجزئ دفعها إليه‏.‏ وفي الميراث يحجب الأخ بأنواعه بالأب وبالفرع الوارث الذّكر باتّفاق، وكذلك يحجب الأخ لأمّ بالجدّ والفرع الوارث ولو أنثى‏.‏ أمّا الأخ الشّقيق أو لأب فإنّ كلّاً منهما يرث مع الجدّ عند أغلب الفقهاء، وكذلك مع الفرع الوارث المؤنّث والأخ لأب مع الجدّ والأخ الشّقيق يحسب على الجدّ أي يعدّ ليقلّ نصيب الجدّ، ونصيبه للأخ الشّقيق ولا يشارك الأخ غير شقيقه من الإخوة إلاّ في المسألة الحجريّة‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ الحجريّة‏)‏‏.‏ وجهه الأخوّة تتفاوت من حيث قوّة القرابة، فالشّقيق يقدّم على غيره، لكن يسوّي بين الأخ لأب والأخ لأمّ في الوصيّة لأقرب الأقارب عند الشّافعيّة والحنابلة‏.‏ ويقدّم الّذي لأب على الأخ لأمّ عند المالكيّة، وهو ما يفهم من قواعد الحنفيّة، إذ قاسوا الوصيّة على الإرث‏.‏ وفي ولاية النّكاح وفي الحضانة يقدّم الجدّ على الأخ الشّقيق أو لأب عند غير المالكيّة ويقدّم الأخ فيهما عند المالكيّة‏.‏ وتختلف آراء الفقهاء في تقديم الأخ على الجدّ في الوصيّة لأقرب الأقارب، وفي وجوب نفقة الأخ على أخيه، وعتقه عليه، وفي قبول شهادته، وفي القضاء له‏.‏

مواطن البحث

3 - بالإضافة إلى ما تقدّم يتكلّم الفقهاء عن الأخ ضمن الأقارب في الوقف‏.‏

أخ لأمّ

انظر‏:‏ أخ‏.‏

إخالة

التّعريف

1 - الإخالة مصدر أخال الأمر أي اشتبه‏.‏ ويقال‏:‏ هذا الأمر لا يخيل على أحد، أي لا يشكل‏.‏ ويستعمل الأصوليّون لفظ الإخالة في باب القياس وباب المصلحة المرسلة‏.‏ والإخالة كون الوصف بحيث تتعيّن علّيّته للحكم بمجرّد إبداء مناسبة بينه وبين الحكم، لا بنصّ ولا غيره‏.‏ وإنّما قيل له مخيّل لأنّه يوقع في النّفس خيال العلّة‏.‏

الحكم الإجماليّ، ومواطن البحث

2 - يكون الوصف مناسباً فيما لو عرض على العقول فتلقّته بالقبول، وهو الوصف الّذي يفضي إلى ما يجلب للإنسان نفعاً أو يدفع عنه ضرراً، كقتل مسلم تترّس به الكفّار في حربهم مع المسلمين، فإنّ في قتله مصلحة قهر العدوّ، ومنع قتلهم للمسلمين‏.‏ والوصف الطّرديّ ليس مخيّلاً، كلون الخمر وقوامها، فلا يقع في القلب علّيّته للتّحريم، لعدم تضمّنه ضرراً يستدعي تحريمها‏.‏ وأمّا الإسكار في الخمر، فإنّه مع تضمّنه مفسدة تغطية العقل، ليس وصفاً مخيّلاً كذلك، لورود النّصّ بالتّعليل به‏.‏ والنّصّ هو قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كلّ مسكر حرام»‏.‏ ولو افترض عدم ورود هذا النّصّ وأمثاله لكان وصف الإسكار مخيّلاً‏.‏ ومن هذا يتبيّن أنّ المناسب أعمّ من المخيّل‏.‏ وفي جواز تعليل حكم الأصل بالوصف المخيّل لأجل القياس، خلاف‏.‏ وكذلك في إثبات الحكم به على أنّه مصلحة مرسلة‏.‏ راجع ‏"‏ الملحق الأصوليّ‏:‏ القياس، والمصلحة المرسلة»‏.‏

إخبار

التّعريف

1 - الإخبار في اللّغة مصدر، أخبره بكذا أي نبّأه‏.‏ والاسم منه الخبر، وهو ما يحتمل الصّدق والكذب لذاته، مثل‏:‏ العلم نور‏.‏ ويقابله الإنشاء، وهو الكلام الّذي لا يحتمل الصّدق والكذب لذاته، كاتّق اللّه‏.‏ والإخبار له أسماء مختلفة باعتبارات متعدّدة‏:‏ فإن كان إخباراً عن حقّ للمخبر على الغير أمام القضاء فيسمّى‏:‏ «دعوى»‏.‏ وإن كان إخباراً بحقّ للغير على المخبر نفسه فهو ‏"‏ إقرار»‏.‏ وإن كان إخباراً بحقّ للغير على الغير أمام القضاء فهو ‏"‏ شهادة»‏.‏ وإن كان إخباراً بثبوت حقّ للغير على الغير من القاضي على سبيل الإلزام فهو ‏"‏ قضاء»‏.‏ وإن كان إخباراً عن قول أو فعل أو صفة أو تقرير منسوب إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فهو ‏"‏ رواية ‏"‏ أو ‏"‏ حديث ‏"‏ أو ‏"‏ أثر ‏"‏ أو ‏"‏ سنّة»‏.‏ وإن كان إخباراً عن مساوئ الشّخص فهو ‏"‏ غيبة»‏.‏ وإن كان إخباراً عن كلام الصّديق لصديقه الآخر على وجه الإفساد بينهما فهو ‏"‏ نميمة»‏.‏ وإن كان إخباراً عن سرّ فهو ‏"‏ إفشاء»‏.‏ وإن كان إخباراً عمّا يضرّ بالمسلمين فهو ‏"‏ خيانة ‏"‏ وهكذا‏.‏

الحكم الإجماليّ

2 - إذا أخبر العدل بخبر وجب قبول خبره‏.‏ وقد يكتفى بالعدل الواحد، كما في الإخبار بالنّجاسة، وقد يشترط التّعدّد كما في الشّهادة‏.‏ أمّا الفاسق إذا أخبر بخبر فلا يقبل خبره في الدّيانات، فإن كان إخباره في الطّهارات والمعاملات ونحوها لم يقبل خبره أيضاً إلاّ إن وقع في القلب صدقه‏.‏

مواطن البحث

3 - يفصل الأصوليّون أحكام الإخبار وأحواله في باب مستقلّ هو باب الإخبار، أو في بحث السّنّة‏.‏ ويتعرّضون لحكم رواية الكافر والفاسق وخبر الآحاد إلى غير ذلك‏.‏ أمّا الفقهاء فيتعرّضون لأحكام الإخبار في الطّهارات بمناسبة ما إذا أخبر الشّخص بنجاسة الماء أو الإناء وفي استقبال القبلة إذا أخبر بها، وفي الشّفعة حين الكلام على تأخير طلبها إذا أخبره بالبيع فاسق، وفي الذّبائح إذا أخبر الفاسق عمّن قام بالذّبح، وفي النّكاح فيما إذا أخبر الفاسق برضا المرأة بالزّواج، وفي الحظر والإباحة فيما إذا أخبر الصّبيّ عن الهديّة أنّها هديّة، أو أخبر عن إذن صاحب البيت‏.‏ وبما أنّ الإخبار تتنوّع أحكامه بحسب ما يضاف إليه فيرجع في كلّ بحث إلى موضعه الخاصّ به‏.‏

أخت

التّعريف

1 - الأخت هي‏:‏ من ولدها أبوك وأمّك أو أحدهما‏.‏ وقد يطلق أيضاً على الأخت من الرّضاع بقرينة قوليّة أو حاليّة‏.‏ ولا يخرج الاستعمال الشّرعيّ عن الاستعمال اللّغويّ‏.‏ والأخت من الرّضاع عند الفقهاء هي‏:‏ من أرضعتك أمّها، أو أرضعتها أمّك، أو أرضعتك وإيّاها امرأة واحدة، أو أرضعت أنت وهي من لبن رجل واحد، كرجل له امرأتان لهما منه لبن، أرضعتك إحداهما وأرضعتها الأخرى‏.‏ والأخت إن كانت من الأب والأمّ يقال لها‏:‏ الأخت الشّقيقة، وإن كانت من الأب فقط يقال لها‏:‏ الأخت لأب، وإن كانت من الأمّ فقط يقال لها‏:‏ الأخت لأمّ‏.‏ وأختك لأمّ من الرّضاعة هي‏:‏ من أرضعتها أمّك بلبن من زوج غير أبيك، أو رضعت أنت من أمّها بلبن غير أبيها، أو رضعت أنت وهي من امرأة أجنبيّة عنكما لكن بلبن من زوجين مختلفين‏.‏ ويعبّر الفقهاء عن الإخوة والأخوات الشّقيقات بأولاد الأبوين، والإخوة الأعيان، وعن الإخوة والأخوات لأب بأولاد الأب وأولاد العلاّت، وعن الإخوة والأخوات لأمّ بأولاد الأمّ، والإخوة الأخياف‏.‏

الحكم الإجمالي

2 - الأخت من ذوي الرّحم المحرم‏.‏ وتأخذ حكم ذي الرّحم المحرم في وجوب الصّلة، وفي جواز النّظر وما في حكمه، وفي حرمة النّكاح، والجمع بين المحارم بنكاح أو ملك يمين، وفي النّفقة، وفي تغليظ الدّية، واستحقاق العتق إذا ملكها أخوها أو أختها‏.‏ غير أنّها قد تختصّ ببعض الأحكام دون بعض الأقارب، فالزّكاة يجزئ دفعها للأخت باتّفاق - غير أنّ البعض اشترط لذلك عدم إرثها بالفعل - وقد لا يجزئ دفعها لبعض المحارم كالبنت‏.‏

3 - وفي الإرث تحجب الأخت بما يحجب الأخ، فهي بأنواعها تحجب بالأب وبالفرع الوارث الذّكر، وكذلك تحجب الأخت لأمّ بالجدّ‏.‏ والأخت لأبوين أو لأب ترث بالفرض، أو بالتّعصيب، بخلاف الأخت لأمّ فإنّها لا ترث إلاّ الفرض‏.‏ ولا تكون الأخت عصبةً بنفسها، بل بالغير أو مع الغير، ولا تحجب غيرها ممّن هو أضعف منها إن كانت ذات فرض‏.‏ وتفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏إرث‏)‏‏.‏ وفي الحضانة تقدّم الأخت على الأخ، وتؤخّر عن الأمّ باتّفاق، وتؤخّر كذلك عن الأب عند غير الحنفيّة‏.‏ والأخت لأمّ كسائر الأخوات النّسبيّة في الأحكام، إلاّ في الميراث، فهي لا ترث إلاّ بالفرض، ولا ترث بالتّعصيب، وهي مع أخيها الذّكر من ولد الأمّ - على التّساوي، تأخذ مثله‏.‏ وتحجب بالفرع الوارث مطلقاً والأصل الوارث المذكّر كالأب والجدّ ‏(‏ر‏:‏ إرث‏)‏‏.‏

أخت رضاعيّة

انظر‏:‏ أخت‏.‏

أخت لأب

انظر‏:‏ أخت‏.‏

أختان

انظر‏:‏ أخت‏.‏

اختصاء

انظر‏:‏ خصاء‏.‏

اختصاص

التّعريف

1 - الاختصاص في اللّغة‏:‏ الانفراد بالشّيء دون الغير، أو إفراد الشّخص دون غيره بشيء ما‏.‏ وهو عند الفقهاء كذلك، فهم يقولون‏:‏ هذا ممّا اختصّ به الرّسول صلى الله عليه وسلم أو ممّا اختصّه اللّه به، ويقولون فيمن وضع سلعته في مقعد من مقاعد السّوق المباحة‏:‏ إنّه اختصّ بها دون غيره، فليس لأحد مزاحمته حتّى يدع‏.‏

من له حقّ الاختصاص

2 - الاختصاص إمّا للمشرّع أو لأحد من العباد بما له من ولاية أو ملك‏.‏ الاختصاص من المشرّع‏.‏

3 - الاختصاص من المشرّع لا تشترط له شروط؛ لأنّه هو واضع الشّروط والأحكام، وهو واجب الطّاعة، كاختصاصه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بإباحة الزّواج بأكثر من أربع نساء، واختصاصه الكعبة بوجوب التّوجّه إليها في الصّلاة‏.‏ ومحلّ الاختصاص - في هذا البحث - قد يكون شخصاً، أو زماناً، أو مكاناً‏.‏

اختصاصات الرّسول صلى الله عليه وسلم

4 - الحكم التّكليفيّ في بحث اختصاصات الرّسول‏:‏ اختلف الفقهاء في جواز البحث في خصائص الرّسول صلى الله عليه وسلم، فأجازه الجمهور ورجّحه النّوويّ، وقال‏:‏ الصّواب الجزم بجواز ذلك، بل باستحبابه، بل لو قيل بوجوبه لم يكن بعيداً؛ لأنّ في البحث في الخصائص زيادة العلم؛ ولأنّه ربّما رأى جاهل بعض الخصائص ثابتةً في الحديث الصّحيح، فعمل به أخذاً بأصل التّأسّي بالرّسول عليه الصلاة والسلام، فوجب بيانها لتعرف فلا يعمل بها‏.‏ وأمّا ما يقع في ضمن الخصائص ممّا لا فائدة فيه اليوم فقليل، لا تخلو أبواب الفقه عن مثله للتّدرّب، ومعرفة الأدلّة وتحقيق الشّيء على ما هو عليه‏.‏ ومنعه بعضهم كإمام الحرمين الجوينيّ‏.‏ وحجّة هؤلاء أنّه لا يتعلّق بهذه الخصائص حكم ناجز تمسّ الحاجة إليه‏.‏

أنواع اختصاصات الرّسول صلى الله عليه وسلم

5 - أ - الأحكام التّكليفيّة الّتي لا تتعدّاه إلى أمّته ككونه لا يورث، وغير ذلك‏.‏

ب - المزايا الأخرويّة، كإعطائه الشّفاعة، وكونه أوّل من يدخل الجنّة وغير ذلك‏.‏

ج - الفضائل الدّنيويّة، ككونه أصدق النّاس حديثاً‏.‏

د - المعجزات كانشقاق القمر، وغيره‏.‏

هـ - الأمور الخلقيّة، ككونه يرى من خلفه ونحو ذلك‏.‏ وسيقتصر البحث على النّوع الأوّل من هذه الاختصاصات - اختصاصه صلى الله عليه وسلم ببعض الأحكام التّكليفيّة‏.‏ أمّا موطن الاطّلاع على الخصائص الأخرى فهو كتب العقائد، وكتب السّيرة النّبويّة، والكتب المؤلّفة في خصائصه صلى الله عليه وسلم وفضائله‏.‏ ما اختصّ به صلى الله عليه وسلم من الأحكام التّكليفيّة‏:‏

6 - هذه الاختصاصات لا تخرج عن كونها واجبةً أو محرّمةً أو مباحةً‏.‏ الاختصاصات الواجبة‏:‏

7 - فرض اللّه على رسوله صلى الله عليه وسلم بعض ما هو مباح أو مندوب على أمّته، إعلاءً لمقامه عنده وإجزالاً لثوابه؛ لأنّ ثواب الفرض أكبر من ثواب النّفل، وفي الحديث‏:‏ «ما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ ممّا افترضته عليه» ومن ذلك‏:‏

أ - قيام اللّيل‏:‏

8 - اختلف العلماء في قيام اللّيل، هل كان فرضاً عليه صلوات اللّه وسلامه عليه أو لم يكن فرضاً، مع اتّفاقهم على عدم فرضيّته على الأمّة‏.‏ فذهب عبد اللّه بن عبّاس إلى أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قد اختصّ بافتراض قيام اللّيل عليه، وتابع ابن عبّاس على ذلك كثير من أهل العلم، منهم الشّافعيّ في أحد قوليه، وكثير من المالكيّة، ورجّحه الطّبريّ في تفسيره‏.‏ واستدلّ على ذلك بقوله تعالى في سورة الإسراء‏:‏ ‏{‏ومن اللّيل فتهجّد به نافلةً لك‏}‏ أي نفلاً لك، أي فضلاً‏:‏ ‏(‏زيادةً‏)‏ عن فرائضك الّتي فرضتها عليك، كما يدلّ على ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قم اللّيل إلاّ قليلاً، نصفه أو انقص منه قليلاً، أو زد عليه‏}‏‏.‏ قال الطّبريّ‏:‏ «خيّره اللّه تعالى حين فرض عليه قيام اللّيل بين هذه المنازل»‏.‏ ويعضّد هذا ويؤيّده ما رواه الطّبرانيّ في معجمه الأوسط والبيهقيّ في سننه عن عائشة رضي الله عنها أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ثلاث هنّ عليّ فرائض ولكم سنّة، الوتر والسّواك وقيام اللّيل»‏.‏ وذهب مجاهد بن جبر إلى أنّ قيام اللّيل ليس بفرض على، رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بل هو نافلة، وإنّما قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏نافلةً لك‏}‏ من أجل أنّه صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، فما عمل من عمل سوى المكتوبة فهو نافلة؛ لأنّه لا يعمل ذلك في كفّارة الذّنوب، فهي نافلة وزيادة، والنّاس يعملون ما سوى المكتوبة لتكفير ذنوبهم فليس للنّاس - في الحقيقة - نوافل‏.‏ وتبع مجاهداً جماعة من العلماء، منهم الشّافعيّ في قوله الآخر، فقد نصّ على أنّ وجوب قيام اللّيل قد نسخ في حقّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كما نسخ في حقّ غيره‏.‏ واستدلّوا على ذلك بعموم قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «خمس صلوات فرضهنّ اللّه على العباد»، خاصّةً أنّ الآية محتملة، والحديث الّذي استدلّ به من قال بفرضيّة قيام اللّيل على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حديث ضعيف‏.‏

ب - صلاة الوتر‏:‏

9 - اختلف الفقهاء في اختصاص رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بافتراض صلاة الوتر عليه، مع اتّفاقهم على أنّ الوتر ليس بفرض على أمّته‏.‏ فذهب الشّافعيّة إلى أنّ الوتر كان واجباً على رسول اللّه وقال الحليميّ والعزّ بن عبد السّلام والغزاليّ من الشّافعيّة وكذلك المالكيّة‏:‏ إنّ هذا الوجوب خاصّ بالحضر دون السّفر، لما روى البخاريّ ومسلم عن ابن عمر «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يصلّي الوتر على راحلته ولا يصلّي عليها المكتوبة»‏.‏ وقال النّوويّ‏:‏ المذهب أنّ صلاة الوتر واجبة على رسول اللّه، ولكن جواز صلاتها على الرّاحلة خاصّ به عليه الصلاة والسلام‏.‏ ويرى العينيّ الحنفيّ في عمدة القاريّ والحنفيّة يقولون بوجوب الوتر - إنّ صلاة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الوتر على الرّاحلة كان قبل أن يفترض عليه الوتر‏.‏

ج - صلاة الضّحى‏:‏

10 - اختلف العلماء في وجوب صلاة الضّحى على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، مع اتّفاقهم على عدم وجوبها على المسلمين‏.‏ فذهب جماعة، منهم الشّافعيّة وبعض المالكيّة إلى أنّ صلاة الضّحى مفروضة على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏ واستدلّوا على ذلك بحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ثلاث هنّ عليّ فرائض، ولكم تطوّع‏:‏ النّحر والوتر وركعتا الضّحى»‏.‏ وأقلّ الواجب منها عليه ركعتان لحديث‏:‏ «أمرت بركعتي الضّحى ولم تؤمروا بها»‏.‏ وذهب الجمهور إلى أنّ صلاة الضّحى ليست مفروضةً على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أمرت بالوتر والأضحى ولم يعزم عليّ»‏.‏

د - سنّة الفجر‏:‏

11 - اختلف العلماء في فرضيّة سنّة الفجر على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مع اتّفاقهم على عدم وجوبها على غيره‏.‏ فنصّ الحنابلة وبعض السّلف على فرضيّتها عليه صلى الله عليه وسلم واستدلّوا على ذلك بحديث ابن عبّاس‏:‏ «ثلاث كتبت عليّ وهنّ لكم تطوّع‏:‏ الوتر والنّحر وركعتا الفجر»‏.‏

هـ - السّواك‏:‏

12 - الجمهور على أنّ السّواك لكلّ صلاة مفترض على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لحديث عبد اللّه بن حنظلة «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء لكلّ صلاة، طاهراً وغير طاهر، فلمّا شقّ عليه ذلك أمر بالسّواك لكلّ صلاة»‏.‏ وفي لفظ‏:‏ «وضع عنه الوضوء إلاّ من حدث»‏.‏

و - الأضحيّة‏:‏

13 - الأضحيّة فرض على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دون أمّته لحديث ابن عبّاس المتقدّم‏:‏ «ثلاث هنّ عليّ فرائض ولكم تطوّع‏:‏ النّحر والوتر وركعتا الضّحى»‏.‏

ز - المشاورة‏:‏

14 - اختلف العلماء في فرضيّة المشاورة على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، مع اتّفاقهم على سنّيّتها على غيره‏.‏ فقال بعضهم بفرضيّتها عليه، واستدلّوا على ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وشاورهم في الأمر‏}‏‏.‏ وقال هؤلاء‏:‏ إنّما وجب ذلك على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم تطييباً للقلوب، وتعليماً للنّاس ليستنّوا به عليه الصلاة والسلام‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ إنّ المشاورة لم تكن فرضاً عليه صلوات اللّه وسلامه عليه لفقدان دليل يصلح لإثبات الفرضيّة‏.‏ وحملوا الأمر في الآية السّابقة على النّدب أو الإرشاد‏.‏ ثمّ اختلفوا فيما يشاور فيه‏:‏ بعد اتّفاقهم على أنّه لا يشاور فيما نزل عليه فيه وحي‏.‏ فقال فريق من العلماء‏:‏ يشاور في أمور الدّنيا، كالحروب ومكايدة العدوّ؛ لأنّ استقراء ما شاور فيه الرّسول ‏(‏ص‏)‏ أصحابه يدلّ على ذلك‏.‏ وقال فريق آخر‏:‏ يشاور في أمور الدّين والدّنيا‏.‏ أمّا في أمور الدّنيا فظاهر، وأمّا في أمور الدّين فإنّ استشارته لهم تكون تنبيهاً لهم على علل الأحكام وطريق الاجتهاد‏.‏

ح - مصابرة العدوّ الزّائد على الضّعف‏:‏

15 - ممّا فرض على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دون أمّته مصابرة العدوّ وإن كثر وزاد على الضّعف، لأنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم محفوظ بحفظ اللّه تعالى‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏واللّه يعصمك من النّاس‏}‏‏.‏

ط - تغيير المنكر‏:‏

16 - ممّا فرض على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم تغيير المنكر، ولا يسقط عنه هذا للخوف، بخلاف أمّته الّتي يسقط عنها بالخوف‏.‏ وذلك لأنّ اللّه تعالى قد تكفّل بحفظ رسوله كما تقدّم، كما لا يسقط عنه إذا كان المرتكب يزيده الإنكار إغراءً، لئلاّ يتوهّم إباحته بخلاف أمّته‏.‏ وإذا كان إنكار المنكر فرض كفاية على أمّته فإنّه فرض عين عليه صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقد استدلّ البيهقيّ على ذلك بعدّة أحاديث في سننه الكبرى‏.‏

ي - قضاء دين من مات معسراً من المسلمين‏:‏

17 - اختلف العلماء في قضاء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دين الميّت المعسر‏.‏ فقال بعضهم‏:‏ كان فرضاً عليه صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال آخرون‏:‏ لم يكن ذلك فرضاً عليه، بل كان منه عليه الصلاة والسلام تطوّعاً‏.‏ ثمّ اختلفوا أيضاً هل القضاء من بيت مال المسلمين أم من مال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فإن كان من مال نفسه فهي خصوصيّة لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمّا إن كان من بيت مال المسلمين فليست بخصوصيّة لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم بل يشاركه فيها جميع ولاة المسلمين‏.‏ والأصل في هذا ما رواه البخاريّ ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ «كان يؤتى بالرّجل يتوفّى وعليه دين، فيسأل‏:‏ هل ترك لدينه فضلاً، فإن حدّث أنّه ترك له وفاءً صلّى عليه، وإلاّ قال للمسلمين‏:‏ صلّوا على صاحبكم، فلمّا فتح اللّه عليه الفتوح قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفّي من المسلمين فترك ديناً فعليّ قضاؤه، ومن ترك مالاً فلورثته»‏.‏

ك - وجوب تخييره نساءه وإمساك من اختارته‏:‏

18 - طالبه أزواجه صلى الله عليه وسلم بالتّوسّع في النّفقة - كما في بعض الرّوايات - حتّى تأذّى من ذلك فأمر اللّه تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام أن يخيّرهنّ فقال جلّ شأنه‏:‏ ‏{‏يا أيّها النّبيّ قل لأزواجك إن كنتنّ تردن الحياة الدّنيا وزينتها فتعالين أمتّعكنّ وأسرّحكنّ سراحاً جميلاً وإن كنتنّ تردن اللّه ورسوله والدّار الآخرة فإنّ اللّه أعدّ للمحسنات منكنّ أجراً عظيماً‏}‏‏.‏ فخيّرهنّ، فاخترنه كلّهنّ إلاّ العامريّة اختارت قومها، فأمر صلى الله عليه وسلم بإمساك من اختارته منهنّ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يحلّ لك النّساء من بعد ولا أن تبدّل بهنّ من أزواج ولو أعجبك حسنهنّ‏}‏، وذلك مكافأة لهنّ على إيثارهنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏

الاختصاصات المحرّمة

19 - قد حرّم اللّه تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم بعض ما أحلّه لأمّته، تنزيهاً له عليه الصلاة والسلام عن سفاسف الأمور، وإعلاءً لشأنه، ولأنّ أجر ترك المحرم أكبر من أجر ترك المكروه، وبذلك يزداد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم علوّاً عند اللّه يوم القيامة‏.‏ ومن ذلك‏:‏

أ - الصّدقات‏:‏

20 - اتّفق العلماء على أنّ اللّه تعالى قد حرّم على رسوله صلى الله عليه وسلم أخذ شيء من صدقات النّاس، سواء أكانت مفروضةً أو تطوّعاً، كالزّكاة، والكفّارة، والنّذر والتّطوّع، صيانةً لمنصبه الشّريف، ولأنّها تنبئ عن ذلّ الآخذ وعزّ المأخوذ منه، وقد أبدل اللّه تعالى رسوله بها الفيء الّذي يؤخذ على سبيل الغلبة والقهر، المنبئ عن عزّ الآخذ وذلّ المأخوذ منه‏.‏ روى مسلم في صحيحه من حديث عبد المطّلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطّلب قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّ هذه الصّدقات إنّما هي أوساخ النّاس، وإنّها لا تحلّ لمحمّد ولا لآل محمّد»‏.‏ هذا، وإنّ تحريم الصّدقات على آل البيت إنّما هو لقرابتهم منه صلى الله عليه وسلم‏.‏

ب - الإهداء لينال أكثر ممّا أهدى‏:‏

21 - حرّم على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يهدي ليعطى أكثر ممّا أهدى لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تمنن تستكثر‏}‏؛ لأنّه صلوات الله وسلامه عليه مأمور بأشرف الآداب وأجلّ الأخلاق، نقل ذلك عن عبد اللّه بن عبّاس وتبعه على ذلك عطاء ومجاهد وإبراهيم النّخعيّ وقتادة والسّدّيّ والضّحّاك وغيرهم‏.‏

ج - أكل ما له رائحة كريهة‏:‏

22 - اختلف العلماء في تحريم نحو الثّوم والبصل وما له رائحة كريهة على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال جماعة منهم المالكيّة‏:‏ إنّ ذلك كان محرّماً عليه‏.‏ واستدلّوا على ذلك بما رواه البخاريّ ومسلم‏.‏ «أنّ رسول اللّه أتي بقدر فيه خضرات من بقول، فوجد لها ريحاً، فسأل فأخبر بما فيها‏.‏ من البقول، فقال‏:‏ قرّبوها أي إلى بعض أصحابه فلمّا رآه كره أكلها قال‏:‏ كل فإنّي أناجي من لا تناجي»‏.‏ وقال جماعة منهم الشّافعيّة‏:‏ لم يكن ذلك محرّماً عليه، ولكن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يكره أكله لتعرّضه لنزول الوحي عليه في كلّ ساعة، وإنّ الملائكة لتتأذّى بالرّيح الخبيثة‏.‏ وقد استدلّ هؤلاء ما رواه مسلم «أنّ أبا أيّوب الأنصاريّ صنع للنّبيّ صلى الله عليه وسلم طعاماً فيه ثوم، وفي رواية‏:‏ أرسل إليه بطعام من خضرة فيه بصل وكرّاث، فردّه عليه الصلاة والسلام ولم يأكل منه شيئاً فقال‏:‏ أحرام هو‏؟‏ قال‏:‏ لا، ولكنّي أكرهه»‏.‏

د - نظم الشّعر‏:‏

23 - هو ممّا حرّم عليه صلى الله عليه وسلم بالاتّفاق، لكن فرّق البيهقيّ وغيره بين الرّجز وغيره من البحور، فقال‏:‏ الرّجز جائز عليه؛ لأنّه ليس بشعر، وغيره لا يجوز‏.‏ واستشهد على ذلك بما أنشده عليه الصلاة والسلام من الرّجز وهو يشارك في حفر الخندق، ومن قال إنّ الرّجز من الشّعر قال‏:‏ إنّ هذا خاصّة ليس بشعر؛ لأنّ الشّعر لا يكون شعراً إلاّ إن صدر عن قائله بقصد الإشعار، وما كان ذلك في ذكر النّبيّ صلى الله عليه وسلم لهذا الرّجز الّذي قاله‏.‏

هـ - نزع لامته إذا لبسها للقتال حتّى يقاتل‏:‏

24 - ممّا حرّم على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دون أمّته أنّه إذا لبس لأمة الحرب يحرم عليه أن ينزعها حتّى يلقى العدوّ؛ لقوله صلوات الله وسلامه عليه‏:‏ «لا ينبغي لنبيّ إذا أخذ لأمة الحرب وأذّن في النّاس بالخروج إلى العدوّ أن يرجع حتّى يقاتل»‏.‏ وواضح أنّه يشترك معه في هذه الخصوصيّة الأنبياء عليهم صلوات اللّه وسلامه‏.‏

و- وخائنة الأعين‏:‏

25 - المراد بها الإيماء بما يظهر خلافه، وهو ممّا حرّم على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دون أمّته إلاّ في محظور، والأصل في هذا التّحريم عليه هو تنزّه مقام النّبوّة عنه، فقد أخرج أبو داود والنّسائيّ والحاكم وصحّحه والبيهقيّ عن سعد بن أبي وقّاص «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الفتح أمّن النّاس إلاّ أربعة نفر منهم عبد اللّه بن أبي سرح، فاختبأ عند عثمان، فلمّا دعا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى البيعة، جاء به فقال‏:‏ يا رسول اللّه بايع عبد اللّه، فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثاً، كلّ ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثمّ أقبل على أصحابه فقال‏:‏ أما فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يديّ عن بيعته ليقتله‏؟‏ قالوا‏:‏ ما يدرينا يا رسول اللّه ما في نفسك، هلاّ أومأت بعينك‏.‏ قال‏:‏ إنّه لا ينبغي أن تكون لنبيّ خائنة الأعين»‏.‏ وهذا يدلّ على أنّه ممّا اختصّ به هو والأنبياء دون الأمم‏.‏

ز - نكاح الكافرة والأمة، والممتنعة عن الهجرة‏:‏

26 - ممّا حرّم على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نكاح الكتابيّة، لخبر‏:‏ «سألت ربّي ألاّ أزوّج إلاّ من كان معي في الجنّة فأعطاني»، - أخرجه الحاكم وصحّح إسناده - ولأنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أشرف من أن يضع ماءه في رحم كافرة؛ ولأنّ الكافرة تكره صحبة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏ كما حرّم على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نكاح الأمة، ولو كانت مسلمةً؛ لأنّ نكاحها معتبر لخوف العنت ‏(‏أي الزّنا‏)‏ وهو معصوم عنه، أو لفقدان مهر الحرّة، ونكاح رسول اللّه صلى الله عليه وسلم غنيّ عن المهر ابتداءً، إذ يجوز له أن ينكح بغير مهر؛ ولأنّ نكاحها يؤدّي إلى رقّ الولد ومقام النّبوّة منزّه عن هذا‏.‏ ويحرم عليه نكاح من وجبت عليها الهجرة ولم تهاجر، لقوله تعالى في سورة الأحزاب‏:‏ «يا أيّها النّبيّ إنّا أحللنا لك أزواجك اللاّتي آتيت أجورهنّ وما ملكت يمينك ممّا أفاء اللّه عليك وبنات عمّك وبنات عمّاتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاّتي هاجرن معك»، وفي قراءة عبد اللّه بن مسعود‏:‏ ‏(‏وبنات خالاتك واللاّتي هاجرن معك‏)‏، ولما رواه التّرمذيّ وحسّنه وابن أبي حاتم عن عبد اللّه بن عبّاس قال‏:‏ «نهي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن أصناف النّساء إلاّ ما كان من المؤمنات المهاجرات»، ولحديث «أمّ هانئ قالت‏:‏ خطبني رسول اللّه فاعتذرت إليه، فعذرني، فأنزل اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏إنّا أحللنا لك أزواجك‏.‏‏}‏‏.‏ الآية إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اللاّتي هاجرن معك‏}‏‏.‏ قالت‏:‏ فلم أكن أحلّ له؛ لأنّي لم أكن ممّن هاجر معه، كنت من الطّلقاء»‏.‏ وقال الإمام أبو يوسف‏:‏ لا دلالة في الآية على أنّ اللاّتي لم يهاجرن كنّ محرّمات عليه، لأنّ تخصيص الشّيء بالذّكر لا ينفي ما عداه‏.‏

ح - إمساك من كرهته‏:‏

27 - ممّا حرّم على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إمساك كارهته ولم يحرم ذلك على أمّته، حفظاً لمقام النّبوّة، فقد روى البخاريّ وغيره عن عائشة رضي الله عنها «أنّ ابنة الجون لمّا أدخلت على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ودنا منها قالت‏:‏ أعوذ باللّه منك، فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ لقد عذت بعظيم، الحقي بأهلك»‏.‏ ويشهد لذلك وجوب تخييره نساءه الّذي تقدّم الحديث عنه‏.‏

الاختصاصات المباحة

أ - الصّلاة بعد العصر‏:‏

28 - ذهب من كره الصّلاة بعد العصر إلى أنّه أبيح لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يصلّي بعد العصر، وكره ذلك لأمّته، فقد روى البيهقيّ في سننه عن عائشة رضي الله عنها «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يصلّي بعد العصر وينهى عنها»‏.‏

ب - الصّلاة على الميّت الغائب‏:‏

29 - من منع الصّلاة على الميّت الغائب كالحنفيّة قال‏:‏ أبيح لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يصلّي على الميّت الغائب دون أمّته لأمر خصّه اللّه تعالى به‏.‏

ج - صيام الوصال‏:‏

30 - جمهور الفقهاء على اختصاص رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بإباحة صيام الوصال له دون أمّته، لما رواه البخاريّ ومسلم «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال، فقيل له‏:‏ إنّك تواصل، فقال‏:‏ إنّي لست كهيئتكم، إنّي أطعم وأسقى»‏.‏

د - القتال في الحرم‏:‏

31 - اتّفق الفقهاء على إباحة القتال لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم في مكّة دون أمّته، لما رواه الشّيخان من قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّ مكّة حرّمها اللّه ولم يحرّمها النّاس، فلا يحلّ لامرئ يؤمن باللّه واليوم الآخر أن يسفك بها دماً، ولا يعضد بها شجرةً، فإن أحد ترخّص بقتال رسول اللّه فقولوا‏:‏ إنّ اللّه أذن لرسوله ولم يأذن لكم»‏.‏

هـ - دخول مكّة بغير إحرام‏:‏

32 - من قال من الفقهاء لا يجوز لمكلّف أن يدخل مكّة بغير إحرام قال‏:‏ إنّ دخول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مكّة يوم فتحها بغير إحرام كان خاصّاً به صلوات الله وسلامه عليه‏.‏

و - القضاء بعلمه‏:‏

33 - من منع القاضي أن يقضي بعلمه جعل ما قضى به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعلمه لهند بنت عتبة وقوله لها‏:‏ «خذي من ماله ما يكفيك» من خصوصيّاته عليه الصلاة والسلام‏.‏

ز - القضاء لنفسه‏:‏

34 - خصّ عليه الصلاة والسلام بإباحة القضاء لنفسه، لأنّ المنع من ذلك في حقّ الأمّة للرّيبة وهي منتفية عنه قطعاً، ومثل ذلك القضاء في حالة الغضب‏.‏

ح - أخذ الهديّة‏:‏

35 - من خصائصه عليه الصلاة والسلام أنّ الهديّة حلال له، بخلاف غيره من الحكّام وولاة الأمور من رعاياهم‏.‏

ط - في الغنيمة والفيء‏:‏

36 - أبيح لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم خمس الغنيمة وإن لم يحضر الوقعة، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واعلموا أنّما غنمتم من شيء فأنّ للّه خمسه وللرّسول‏}‏‏.‏ وأبيح له الصّفيّ من المغنم، وهو ما يختاره قبل القسمة من الغنيمة، كسيف ودرع ونحوهما، ومنه صفيّة أمّ المؤمنين الّتي اصطفاها من المغنم لنفسه‏.‏

ي - في النّكاح‏:‏

37 - ممّا اختصّ به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأبيح له دون أمّته أن يتزوّج أكثر من أربع نساء، وأن يتزوّج بغير مهر، وأن يتزوّج المرأة بغير إذن وليّها‏.‏ ويباح له ألاّ يقسم بين أزواجه عند البعض، مع أنّه عليه الصلاة والسلام كان حريصاً على القسم، حتّى في السّفر، حيث كان يقرع بينهنّ، ولمّا اشتدّ عليه المرض استأذن أن يمرّض في بيت عائشة‏.‏

الخصائص من الفضائل

38 - هناك أمور اختصّ بها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لمزيد فضل ومنها‏:‏

أ - اختصاص من شاء بما شاء من الأحكام‏:‏

39 - لمّا كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مشرّعاً لا ينطق عن الهوى، فإنّ له أن يخصّ من شاء بما شاء من الأحكام، كجعله شهادة خزيمة بشهادة رجلين، وإجازته الأضحيّة بالعناق ‏(‏الجذع‏)‏ لأبي بردة ولعقبة بن عامر، وتزويجه رجلاً على سورة من القرآن، وتزويجه أمّ سليم أبا طلحة على إسلامه‏.‏

ب - الرّسول أولى بالمؤمنين من أنفسهم‏:‏

40 - خصّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دون أحد من أمّته بأنّه أولى بالمؤمنين من أنفسهم؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏النّبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم‏}‏‏.‏ ويترتّب على ذلك كثير من الأحكام‏:‏ من ذلك وجوب محبّته أكثر من النّفس والمال والولد، لما رواه البخاريّ عن «عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنّه قال للنّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ لأنت أحبّ إليّ من كلّ شيء إلاّ نفسي الّتي بين جنبيّ، فقال له صلى الله عليه وسلم‏:‏ لن يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبّ إليه من نفسه، فقال عمر‏:‏ والّذي أنزل عليك الكتاب لأنت أحبّ إليّ من نفسي الّتي بين جنبيّ، فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ الآن يا عمر»‏.‏ ومن ذلك وجوب فدائه بالنّفس والمال والولد‏.‏ ومن ذلك وجوب طاعته وإن خالفت هوى النّفس، وغير ذلك‏.‏

ج - الجمع بين اسم الرّسول وكنيته لمولود‏:‏

41 - ذهب الشّافعيّ وهو إحدى الرّوايتين عن أحمد وهو قول طاوس وابن سيرين إلى أنّه لا يحلّ التّكنّي بكنية رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في عصره، سواء كان اسمه محمّداً، أو لا، لما رواه جابر قال‏:‏ «ولد لرجل من الأنصار غلام فسمّاه محمّداً فغضب الأنصار وقالوا‏:‏ حتّى نستأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له فقال‏:‏ قد أحسنت الأنصار، ثمّ قال‏:‏ تسمّوا باسمي ولا تكنّوا بكنيتي، فإنّي أبو القاسم أقسم بينكم» - أخرجه البخاريّ ومسلم‏.‏ وذهب البعض - منهم الإمام أحمد في إحدى الرّوايتين عنه - إلى أنّه لا يجوز الجمع بين اسم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وكنيته، لما رواه أبو داود في سننه من قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من تسمّى باسمي فلا يتكنّى بكنيتي، ومن تكنّى بكنيتي فلا يتسمّى باسمي»‏.‏ وهؤلاء المانعون‏:‏ منهم من جعل المنع منع تحريم، ومنهم من جعل المنع منع كراهة‏.‏ وذهب الحنفيّة إلى أنّ الجمع بين اسم رسول اللّه وكنيته كان ممنوعاً ثمّ نسخ المنع وثبت الحلّ، لما رواه أبو داود عن عائشة قالت‏:‏ «جاءت امرأة إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ يا رسول اللّه إنّي قد ولدت غلاماً فسمّيته محمّداً وكنّيته أبا القاسم، فذكر لي أنّك تكره ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما الّذي أحلّ اسمي وحرّم كنيتي، أو ما الّذي حرّم كنيتي وأحلّ اسمي»، ولذلك كان الصّحابة لا يرون بأساً في تسمية أولادهم باسم ‏"‏ محمّد ‏"‏ وتكنيتهم ب ‏"‏ أبي القاسم ‏"‏ حتّى قال راشد بن حفص الزّهريّ‏:‏ أدركت أربعةً من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كلّهم يسمّى محمّداً ويكنّى أبا القاسم‏:‏ محمّد بن طلحة بن عبيد اللّه، ومحمّد بن أبي بكر، ومحمّد بن عليّ بن أبي طالب، ومحمّد بن سعد بن أبي وقّاص‏.‏ وذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى أنّ النّهي كان مخصوصاً بحياة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمّا بعد وفاته فتباح التّسمية باسمه والتّكنّي بكنيته‏.‏ يدلّ على ذلك سبب المنع، وهو أنّ اليهود تكنّوا بكنية رسول اللّه، وكانوا ينادون يا أبا القاسم، فإذا التفت النّبيّ صلى الله عليه وسلم قالوا‏:‏ لم نعنك، إظهاراً للإيذاء، وقد زال هذا المنع بوفاة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ويدلّ على ذلك أيضاً ما رواه ابن أبي شيبة في مصنّفه «أنّ عليّاً قال‏:‏ يا رسول اللّه‏:‏ أرأيت إن ولد لي بعدك ولد أسمّيه محمّداً وأكنّيه بكنيتك‏؟‏ قال‏:‏ نعم»‏.‏

د - التّقدّم بين يديه ورفع الصّوت بحضرته‏:‏

42 - خصّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دون أمّته بأنّه لا يجوز التّقدّم بين يديه - أي سبقه بالاقتراح عليه - لأنّ رسول اللّه مسدّد بالوحي، ولقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيّها الّذين آمنوا لا تقدّموا بين يدي اللّه ورسوله‏}‏ كما لا يجوز رفع الصّوت بحضرته عليه الصلاة والسلام حتّى يعلو صوت المتكلّم على صوت رسول اللّه، لقوله تعالى في سورة الحجرات‏:‏ ‏{‏يا أيّها الّذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النّبيّ ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون‏}‏‏.‏

هـ - قتل من سبّه‏:‏

43 - ممّا اختصّ به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّ من سبّه أو قذفه فعقوبته القتل‏.‏

و - إجابة من دعاه‏:‏

44 - من خصائصه عليه الصلاة والسلام أنّه إذا دعا أحداً فعليه أن يجيبه ولو كان في الصّلاة، فإن أجابه في الصّلاة فإنّه لا تفسد صلاته، لما روى البخاريّ عن أبي سعيد بن المعلّى الأنصاريّ «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دعاه وهو يصلّي، فصلّى ثمّ أتاه، فقال‏:‏ ما منعك أن تجيبني‏؟‏ قال‏:‏ إنّي كنت أصلّي، فقال‏:‏ ألم يقل اللّه عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏يا أيّها الّذين آمنوا استجيبوا للّه وللرّسول إذا دعاكم‏}‏»‏.‏

ز - نسب أولاد بناته إليه‏:‏

45 - ممّا اختصّ به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دون النّاس جميعاً أنّ أولاد بناته ينتسبون إليه في الكفاءة وغيرها‏.‏ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّ ابني هذا سيّد»، ولما ذكره السّيوطيّ في الخصائص الصّغرى من حديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّ اللّه لم يبعث نبيّاً قطّ إلاّ جعل ذرّيّته في صلبه غيري، فإنّ اللّه جعل ذرّيّتي من صلب عليّ»‏.‏

ح - لا يورث‏:‏

46 - ممّا اختصّ به صلوات الله وسلامه عليه دون أمّته أنّه لا يورث، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة»‏.‏ وما تركه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ينفق منه على عياله، وما فضل فهو صدقة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما تركت بعد نفقة نسائي ومئونة عاملي فهو صدقة»‏.‏ وليس ذلك لأمّته، وفي الواضح مشاركة الأنبياء له في ذلك‏.‏

ط - أزواجه أمّهات المؤمنين‏:‏

47 - ممّا اختصّ به رسول اللّه أنّ أزواجه أمّهات المؤمنين، لا ينكحن بعده، ولا ترى أشخاصهنّ لغير المحارم، وعليهنّ الجلوس في بيوتهنّ، لا يخرجن إلاّ لضرورة بعد وفاته عليه الصلاة والسلام‏.‏ وتفصيله في مصطلح «أمّهات المؤمنين»‏.‏

الفصل الثّاني‏:‏ اختصاص الأزمنة

هناك أزمنة اختصّت بأحكام دون غيرها هي‏:‏

أ - ليلة القدر‏:‏

48 - اختصّت هذه اللّيلة باستحباب تحرّيها وقيام ليلها - كما سيأتي ذلك مفصّلاً في «ليلة القدر» «وقيام اللّيل»‏.‏

ب - شهر رمضان اختصاص‏:‏

49 - اختصّ شهر رمضان بافتراض صيامه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن شهد منكم الشّهر فليصمه‏}‏، وسنّيّة قيامه بصلاة التّراويح، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه»‏.‏

ج - يوما العيدين‏:‏

50 - اختصّت ليلتا العيدين بندب إحيائهما؛ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من قام ليلتي العيد محتسباً للّه لم يمت قلبه يوم تموت القلوب»، كما اختصّ يوماهما بصلاة خاصّة - هي صلاة العيد - وحرمة الصّيام فيهما، وبالتّكبير في صبحيّتهما‏.‏

د - أيّام التّشريق‏:‏

51 - اختصّت أيّام التّشريق بالتّكبير عقب صلاة الفرائض وجواز ذبح الأضحيّة، وتحريم الصّيام، كما سيأتي ذلك في ‏"‏ أيّام التّشريق»‏.‏ وانظر كذلك مصطلح «أضحيّة»‏.‏

هـ - يوم الجمعة‏:‏

52 - اختصّ يوم الجمعة بوجوب صلاة خاصّة فيه تقوم مقام صلاة الظّهر هي صلاة الجمعة، واستنان الغسل فيه، واستحباب الدّعاء فيه؛ لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلّي يسأل اللّه شيئاً إلاّ أعطاه إيّاه» وكراهة إفراده بالصّيام والقيام‏.‏

و - اليوم التّاسع من ذي الحجّة‏:‏

53 - اختصّ يوم عرفة بوجوب وقوف الحجّاج فيه في عرفة وكراهة صومه للحاجّ‏.‏

ز - يوم نصف شعبان وليلته‏:‏

54 - اختصّت ليلة النّصف من شعبان باستحباب قيامها عند الجمهور؛ لما ورد من أحاديث صحيحة في فضلها من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا كانت ليلة النّصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها، فإنّ اللّه ينزل فيها لغروب الشّمس إلى السّماء الدّنيا فيقول‏:‏ ألا من مستغفر لي فأغفر له، ألا مسترزق فأرزقه، ألا مبتلًى فأعافيه ألا كذا‏.‏‏.‏‏.‏ ألا كذا‏.‏‏.‏‏.‏ حتّى يطلع الفجر»‏.‏

ح - أوّل ليلة من رجب‏:‏

55 - اختصّت أوّل ليلة من ليالي رجب باستحباب قيامها، كما ذكر ذلك بعض الحنفيّة وبعض الحنابلة؛ لأنّها من اللّيالي الّتي لا يردّ فيها الدّعاء‏.‏

ط - يوما عاشوراء وتاسوعاء‏:‏

56 - اختصّ يوما تاسوعاء وعاشوراء باستحباب صيامهما، لما رواه مسلم وأبو داود عن ابن عبّاس قال‏:‏ «حين صام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه، قالوا يا رسول اللّه‏:‏ إنّه يوم تعظّمه اليهود والنّصارى، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ فإذا كان العام القابل - إن شاء اللّه - صمت اليوم التّاسع، فلم يأت العام المقبل حتّى توفّي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم»‏.‏ وذهب بعض الحنابلة إلى استحباب قيام ليلة عاشوراء‏.‏

ي - يوم الشّكّ‏:‏

57 - يوم الشّكّ، وهو يوم الثّلاثين من شعبان إذا غمّ على النّاس فلم يروا الهلال اختصّ تحريم صيامه، لما رواه صلة بن زفر قال‏:‏ «كنّا عند عمّار في اليوم الّذي يشكّ فيه فأتى بشاة مصليّة، فتنحّى بعض القوم، فقال عمّار‏:‏ من صام هذا اليوم فقد عصى أبا القاسم‏.‏

ك - الأيّام البيض‏:‏

58 - اختصّت الأيّام البيض باستحباب صيامها، لما رواه أبو داود والنّسائيّ عن عبد الملك بن ملحان القيسيّ عن أبيه قال‏:‏ «كان رسول اللّه يأمرنا أن نصوم البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة قال‏:‏ وقال‏:‏ هنّ كهيئة الدّهر»‏.‏

ل - العشر الأوائل من ذي الحجّة‏:‏

59 - اختصّت باستحباب صيامها وقيامها، لما رواه التّرمذيّ عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «ما من أيّام أحبّ إلى اللّه أن يتعبّد له فيها من عشر ذي الحجّة، يعدل صيام كلّ يوم منها بصيام سنة‏.‏ وقيام كلّ ليلة منها بقيام ليلة القدر»‏.‏ هذا مع مراعاة النّهي عن صوم يوم العيد، لما ورد من حكم خاصّ به‏.‏

م - شهر المحرّم‏:‏

60 - اختصّ شهر المحرّم باستحباب صومه، لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أفضل الصّيام بعد رمضان شهر اللّه المحرّم»‏.‏

ن - شهر شعبان‏:‏

61 - اختصّ شعبان باستحباب الصّيام فيه؛ لحديث عائشة رضي الله عنها‏:‏ «ما رأيت رسول اللّه استكمل صيام شهر قطّ إلاّ شهر رمضان، وما رأيته في شهر أكثر منه صياماً في شعبان»‏.‏ واختصّ آخره بكراهة الصّيام فيه‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يتقدّمنّ أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلاّ أن يكون رجلاً كان يصوم صوماً فليصمه»‏.‏

س - وقت صلاة الجمعة‏:‏

62 - اختصّ وقت صلاة الجمعة بتحريم البيع والشّراء فيه لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيّها الّذين آمنوا إذا نودي للصّلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر اللّه وذروا البيع‏}‏‏.‏

ع - أوقات أخرى‏:‏

63 - وقت طلوع الشّمس، ووقت استوائها، ووقت غروبها وبعد صلاة الفجر وبعد صلاة العصر‏:‏ اختصّت هذه الأوقات بمنع الصّلاة فيها، على اختلاف بين الفقهاء وتفصيل في صحّة الصّلاة منها مع الكراهة أو عدم الصّحّة في الثّلاثة الأولى منها دون غيرها‏.‏

اختصاص الأماكن

أ - الكعبة المشرّفة‏:‏

64 - اختصّت الكعبة المشرّفة بما يلي‏:‏ أوّلاً - افتراض إحيائها بالحجّ والعمرة، وتفصيله في ‏"‏ إحياء البيت الحرام»‏.‏ ثانياً - تكون تحيّتها بالطّواف عند البعض من الشّافعيّة، وقال غيرهم كالحنفيّة والحنابلة‏:‏ الطّواف هو تحيّة المسجد الحرام‏.‏ ثالثاً - المصلّون حولها يجوز أن يتقدّم منهم المأموم على الإمام، إن لم يكن في جانبه، على أنّ المالكيّة أجازوا تقدّم المأموم على الإمام مطلقاً، وكرهوه لغير ضرورة‏.‏ وقد فصّل ذلك الفقهاء في كتاب الصّلاة‏.‏ رابعاً - اختلف الفقهاء في جواز الصّلاة في جوف الكعبة وعلى ظهرها، فلم يجزها ابن جرير الطّبريّ، ومنع الإمام أحمد الفرض، وأجاز النّفل، ومنع الإمام مالك الفرائض والسّنن وأجاز التّطوّع، وأجاز الحنفيّة والشّافعيّة الفرائض والنّوافل جميعاً، وتفصيل ذلك سيأتي في الصّلاة‏.‏ فإن صلّى في جوف الكعبة أو على ظهرها اتّجه إلى أيّ جهة شاء‏.‏ خامساً - افتراض التّوجّه إليها في الصّلاة بالإجماع فإنّها قبلة المسلمين في صلاتهم، وتفصيله في ‏"‏ استقبال»‏.‏ سادساً - كراهة استقبالها في بول أو غائط ‏(‏أي حين التّخلّي‏)‏‏.‏ وذهب الشّافعيّة إلى تحريم ذلك والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ولكن شرّقوا أو غرّبوا» وتفصيله في مصطلح «قضاء الحاجة»‏.‏

ب - حرم مكّة‏:‏

65 - اختصّ حرم مكّة المكرّمة بما يلي‏:‏ أوّلاً‏:‏ عدم جواز دخول الكفّار إليه عند الجمهور لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا‏}‏ وقد أجلاهم عمر عنه، وأجاز الحنفيّة لهم دخوله دون الإقامة فيه كالحجاز‏.‏ ثانياً‏:‏ اختلف الفقهاء في جواز دخوله بغير إحرام على تفصيل في مصطلح ‏(‏إحرام‏)‏‏.‏ ثالثاً‏:‏ إنّ الصّلاة فيه تعدل مائة ألف صلاة في ثوابها لا في إسقاط الفرائض؛ لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلاّ المسجد الحرام» وحرم مكّة كمسجدها في مضاعفة الثّواب‏.‏ رابعاً‏:‏ عدم كراهة الصّلاة فيه في الأوقات الّتي تكره فيها الصّلاة؛ لحديث جبير بن مطعم «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلّى أيّة ساعة شاء من ليل أو نهار»‏.‏ خامساً‏:‏ تحريم صيده، فمن صاد فعليه الجزاء، كما هو مفصّل في بحث ‏"‏ إحرام»‏.‏ سادساً‏:‏ تحريم القتال فيه، وسفك الدّماء، وحمل السّلاح وكذلك إقامة الحدود، على من ارتكب موجباتها خارج الحرم عند الحنفيّة والحنابلة، خلافاً للمالكيّة والشّافعيّة الّذين أجازوا إقامتها فيه مطلقاً‏.‏ أمّا من ارتكب ذلك داخل الحرم فيجوز إقامة الحدود عليه اتّفاقاً لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّ مكّة حرّمها اللّه ولم يحرّمها النّاس، فلا يحلّ لامرئ يؤمن باللّه واليوم الآخر أن يسفك فيها دماً» وقوله صلوات اللّه وسلامه عليه‏:‏ «لا يحلّ لأحدكم أن يحمل السّلاح بمكّة»‏.‏ سابعاً‏:‏ تغليظ دية الجناية فيه، فقد قضى عمر بن الخطّاب، فيمن قتل في الحرم، بالدّية وثلث الدّية، وقال بعضهم‏:‏ لا تغلّظ، كما هو مفصّل في مصطلح ‏(‏دية‏)‏‏.‏ ثامناً‏:‏ قطع أشجاره‏:‏ ولا يجوز قطع شيء من أشجار حرم مكّة بالاتّفاق، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّ مكّة حرّمها اللّه ولم يحرّمها النّاس، فلا يحلّ لامرئ يؤمن باللّه واليوم الآخر أن يسفك فيها دماً ولا يعضد فيها شجرةً»‏.‏ تاسعاً‏:‏ اختلف الفقهاء في لقطة الحرم، فقال الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة وهي إحدى الرّوايتين عن الشّافعيّ أنّها كلقطة الحلّ، وظاهر كلام أحمد وهو إحدى الرّوايتين عن الشّافعيّ أنّ من التقط لقطةً من الحرم كان عليه أن يعرّفها أبداً حتّى يأتي صاحبها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تلتقط لقطته إلاّ من عرّفها»‏.‏ عاشراً‏:‏ لا يصحّ ذبح الهدي إلاّ فيه، كما هو مبيّن في الحجّ، ولا يجوز إخراج شيء من ترابه‏.‏

ج - مسجد مكّة‏:‏

66 - يختصّ مسجد مكّة المكرّمة بما يختصّ به حرمها لأنّه جزء من حرمها، ويزيد عليه ما يلي‏:‏ أوّلاً‏:‏ جواز قصده بالزّيارة وشدّ الرّحال إليه لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تشدّ الرّحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد‏:‏ المسجد الحرام، ومسجد الرّسول، والمسجد الأقصى» ثانياً‏:‏ تقدّم المأموم فيه على الإمام - وقد تقدّم فيما تختصّ به الكعبة المشرّفة، كما اختصّت مواطن بأعمال في الحجّ تتعيّن وجوباً أو ندباً، كعرفة، ومنًى، ومزدلفة، والمواقيت المكانيّة للإحرام‏.‏ وتفصيله في مصطلحي‏:‏ ‏(‏الحجّ - والإحرام‏)‏‏.‏

د - المدينة المنوّرة‏:‏

67 - أوّلاً‏:‏ المدينة المنوّرة حرم، ما بين عير إلى ثور، لا يحلّ صيدها ولا يعضد شجرها، كما ذهب إلى ذلك الشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة، والزّهريّ وغيرهم لحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّ إبراهيم حرّم مكّة ودعا لها، وإنّي حرّمت المدينة كما حرّم إبراهيم مكّة، وإنّي دعوت في صاعها ومدّها بمثل ما دعا به إبراهيم لأهل مكّة»‏.‏ خالف في ذلك الحنفيّة وسفيان الثّوريّ وعبد اللّه بن المبارك، فقالوا‏:‏ ليس للمدينة المنوّرة حرم، ولا يمنع أحد من أخذ صيدها وشجرها، وما أراد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بحديثه المتقدّم تحريمها، ولكنّه أراد بقاء زينتها ليألفها النّاس، لما رواه الطّحاويّ والبزّار من قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تهدموا الآطام فإنّها زينة المدينة»، ولما رواه مسلم من قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يا أبا عمير ما فعل النّغير‏؟‏» والنّغير صيد‏.‏ ثانياً‏:‏ يمنع الذّمّيّ من الاستيطان بها ولا يمنع من دخولها‏.‏ ثالثاً‏:‏ قدّم الإمام مالك العمل بما أجمع عليه فقهاء المدينة المنوّرة في عصره على خبر الواحد‏.‏ رابعاً‏:‏ الإقامة في المدينة المنوّرة أحبّ من الإقامة في غيرها ولو كانت مكّة؛ لأنّها مهاجر المسلمين، لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «تفتح اليمن فيأتي قوم يبسّون، فيتحمّلون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وتفتح الشّام فيأتي قوم يبسّون فيتحمّلون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وتفتح العراق فيأتي قوم يبسّون فيتحمّلون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون»‏.‏ خامساً‏:‏ يستحبّ للمؤمن الانقطاع بها ليحصّل الموت فيها، فقد كان عمر بن الخطّاب يدعو اللّه ويقول‏:‏ اللّهمّ ارزقني شهادةً في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك، وذلك لما رواه التّرمذيّ عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها، فإنّي أشفع لمن يموت بها»‏.‏

هـ - مسجد الرّسول صلى الله عليه وسلم‏:‏

68 - يختصّ مسجد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بأنّ الصّلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلاّ المسجد الحرام، لما في الصّحيحين من قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلاّ المسجد الحرام»‏.‏ ويختصّ بجواز شدّ الرّحال إليه، وقد تقدّم حديث‏:‏ «لا تشدّ الرّحال إلاّ إلى ثلاث مساجد» وذكر منها مسجد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏

و - مسجد قباء‏:‏

69 - يختصّ مسجد قباء بأنّ من أتاه فصلّى فيه كانت له كعمرة، لما رواه النّسائيّ عن سهل بن حنيف قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من خرج حتّى يأتي هذا المسجد - مسجد قباء - فصلّى فيه كان له عدل عمرة» وفي سنن التّرمذيّ عن أسيد بن ظهير أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «الصّلاة في مسجد قباء كعمرة» ولذلك استحبّ إتيان هذا المسجد والصّلاة فيه‏.‏

ز - المسجد الأقصى‏:‏

70 - يختصّ المسجد الأقصى بجواز شدّ الرّحال إليه، وقد تقدّم‏.‏ واختلفوا في كراهة التّوجّه إلى بيت المقدس في البول والغائط، فكرهه بعضهم؛ لأنّ بيت المقدس كان قبلةً، وأباحه آخرون، وقد ذكر ذلك الفقهاء عند حديثهم عن آداب الاستنجاء في كتاب الطّهارة‏.‏

ح - بئر زمزم‏:‏

71 - اختصّ ماء زمزم عن غيره من المياه بأنّ لشربه آداباً خاصّةً، ولا يجوز استعماله في مواضع الامتهان كإزالة النّجاسة الحقيقيّة، على خلاف وتفصيل سبق في مصطلح «آبار» ‏(‏ف 33 - 35‏)‏ ‏(‏في الجزء الأوّل‏)‏‏.‏

الاختصاص بالولاية أو الملك

72 - المخصّص إمّا أن يكون الشّرع، وقد سبق بيانه، أو الشّخص بملك أو ولاية‏.‏ وهذا الأخير يشترط فيه ما يلي‏:‏

شروط الشّخص المخصّص‏:‏

73 - أ - أن يكون أهلاً للتّصرّف‏.‏

ب - أن يكون ذا ولاية، سواء أكانت ولايةً عامّةً كالأمير والقاضي ونحوهما، أم ولايةً خاصّةً كالأب ونحوه‏.‏

ج - أن يكون ذا ملك، إذ لصاحب الملك أن يختصّ بملكه من يشاء بشروطه‏.‏

اختصاص ذي الولاية‏:‏

74 - إذا كان المخصّص صاحب الولاية فإنّه يشترط في الاختصاص أن يكون محقّقاً لمصلحة المولى عليه، ومن هنا قالوا‏:‏ تصرّف ذي الولاية منوط بالمصلحة؛ لأنّ الولاية أمانة، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّها أمانة، وأنّها يوم القيامة خزي وندامة إلاّ من أخذها بحقّها وأدّى الّذي عليه فيها»‏.‏ وقال ابن تيميّة في السّياسة الشّرعيّة‏:‏ «إنّ وصيّ اليتيم وناظر الوقف عليه أن يتصرّف له بالأصلح فالأصلح»‏.‏ ومن ذلك اختصاص بعض القضاة بالقضاء في بلد معيّن، أو في جانب معيّن من بلد دون الجوانب الأخرى، أو في مذهب معيّن، أو النّظر في نوع من الدّعاوى دون الأنواع الأخرى كالمناكحات أو الحدود أو المظالم ونحو ذلك، وقد فصّل الفقهاء ذلك في كتاب القضاء، وفي كتب الأحكام السّلطانيّة‏.‏ ويجب مراعاة المصلحة في اختصاص الرّجال، في الولايات أو منح الأموال ونحوها، كالحمى، وهو في حقيقته اختصاص أرض معيّنة لترعى فيها أنعام الصّدقة، أو خيل الجهاد، واختصاص بعض الأراضي بإقطاعها للإحياء، واختصاص بعض المرافق العامّة بإقطاعها إقطاع إرفاق كالطّرقات ومقاعد الأسواق ونحو ذلك‏.‏ واختصاص بعض الموادّ الضّروريّة برفع العشور عنها، أو تخفيض العشور عنها؛ ليكثر جلبها إلى أسواق المسلمين، فقد كان عمر رضي الله عنه يأخذ من النّبط من الحنطة والزّيت نصف العشر، يريد بذلك أن يكثر الحمل إلى المدينة المنوّرة ويأخذ من القطنيّة - الحمّص والعدس - العشر‏.‏

‏(‏اختصاص المالك‏)‏‏:‏

75 - أمّا إذا كان المخصّص صاحب ملك، فإنّه يشترط لاختصاصه بعض ملكه بشيء من التّصرّفات دون بعض ألاّ ينشأ عن اختصاصه هذا ضرر أو مفسدة ولذلك منع من الوصيّة بأكثر من الثّلث لما فيه من الإضرار بالورثة، ومنع من إعطاء بعض أولاده عطيّته لغير سبب مشروع دون باقيهم لما فيه من إيغار صدور بعضهم على بعض‏.‏